الحرب على اليمن ليست إماراتية أو سعودية أو أميركية فحسب كما يظن البعض، الحرب على اليمن فرنسية أيضاً. الحذر من إشهار الانخراط في الحرب، فرنسي هو أيضاً، الخشية من الحبل بـ«المذابح» التي ارتكبها التحالف أو تلك التي سيرتكبها في طريقه نحو اقتحام «الحديدة»، ميناء اليمن الأخير، الذي يبقي رؤوس الملايين من أبنائه فوق بحر الحصار، وراء «الخفر» في الظهور علناً في خنادق الحرب التي يشنها التحالف الدولي على اليمن منذ انطلاق الحرب في آذار ٢٠١٥.نزع الألغام من الممرات البحرية حول ميناء «الحديدة» للمجاهرة بالمشاركة في العملية العسكرية هو الدور الذي اختارته وزارة الدفاع الفرنسية للتخفف مسبقاً من وحشية ما أتى، وسيأتي على ٦٠٠ ألف يمني في مدينة الميناء الاستراتيجي، الثغرة الأكبر في الحصار الذي يعمل التحالف على إغلاقها على اليمن وتجويعه. الفرنسيون ليسوا في الخنادق ولا في الاقتحام البحري أو الجوي، ولا في الحصار على اليمن على ما تقوله وزارة الدفاع، لكنهم سينزلون بحر «الحديدة» لتنظيفه من الأفخاخ والألغام بمجرد اقتحام «الإماراتيين» للبر. وزارة الدفاع الفرنسية اضطرت للإعلان عن عمليتها «الإنسانية» بعد أن كشفت صحيفة «لو فيغارو» عن مشاركة وحدات من القوات الخاصة الفرنسية في الهجوم على «الحديدة». ذلك أن الفرنسيين، ليسوا في «الإنساني» بأي حال، بسبب تباعد ما بين احتمال سقوط المدينة التي لا تزال تقاوم الغزو من البر والبحر والجو، وبين لحظة نزع الألغام، وبسبب الأدوار الكثيرة التي يؤديها الفرنسيون في الحرب على اليمن استخبارياً وتسليحاً وعملياتياً.
استخبارياً يقف الفرنسيون في الخط الأمامي للحرب السعودية والإماراتية على اليمن. فمنذ آذار ٢٠١٥، تشارك ٥ طائرات «رافال» المتعددة المهام في عمليات الاستطلاع للمواقع اليمنية، انطلاقاً من قاعدة «الظفرة» الإماراتية، ومن قاعدة في جيبوتي. كذلك تقدم فرنسا صور الأقمار الاصطناعية للمواقع اليمنية للإماراتيين والسعوديين منذ بداية الحرب بل إن باريس خاضت الحرب ضد «الحوثيين» منذ عام ٢٠٠٩. فعندما رفضت الولايات المتحدة طلباً سعودياً ذلك العام للتدخل ضد الاختراق «الحوثي» من صعدة لجبل دخان في عسير، هرع نيكولا ساركوزي ليحل محل الأميركيين وتقديم مساعدة مروحياته في قاعدة «جيبوتي» لمهاجمة الحوثيين، فيما كانت تتدفق صور الاقمار الاصطناعية الفرنسية وترشد السعوديين إلى مكامن الخرق «الحوثي».
لم تكن تلك النجدة الفرنسية المرة الأولى التي يحل فيها الفرنسيون محل الأميركيين الرافضين والتصرف كصياد فرص، لتحصيل بعض المكاسب الدبلوماسية والتجارية. إذ يحل منذ أيام الفرنسيون مرة ثانية محل الأميركيين في نجدة الإماراتي والسعودي، وفي عملية «الحديدة» بعد أن رفض هؤلاء طلباً إماراتياً لتزويدهم بامكانات استخبارية وجوية، واستطلاع وتفكيك ألغام في عملية تتطلب إمكانات تقنية وبشرية لن يكون بوسع «التحالف» النهوض بها.
وتسليحاً، لم يوقف تدفق الأسلحة الفرنسية نحو الجبهات اليمنية، لا عشرات المذابح التي ارتكبها التحالف في اليمن خلال أعوامها الثلاثة الماضية، ولا توقيع فرنسا نفسها قبل عام من اندلاع الحرب على معاهدة منع تصدير الأسلحة التي يمكن أن تستخدم في انتهاك حقوق الإنسان. واصل الفرنسيون تسليم السعوديين في شكل خاص صواريخ «تاليس» الموجهة بالليزر، والتي جرى استخدامها على نطاق واسع في المدن اليمنية، لا سيما في المراحل الأولى من العمليات في أذار ونيسان ٢٠١٥. وتم تعديل مدافع قيصر من «نيكستر» ١٥٥ ملم وتزويد السعوديين بها. ودخلت في خدمة سلاح الجو السعودي بعد عام من اندلاع الحرب، ست طائرات إرباص ٣٣٠-٢٠٠ لتزويد مقاتلات «أف ١٥» السعودية بالوقود في الجو خلال عملياتها في اليمن، إضافة إلى طائرات من دون طيار، والمقاتلات المروحية «كوغار» التي تصنعها «هيئة التصنيع الأوروبية» المشتركة. وتلقت فرنسا ٩٠٠ مليون يورو في النصف الثاني من ٢٠١٥ لقاء عتاد وذخائر استخدمها السعوديون في هجمات الأشهر الأولى. وانزلق الفرنسيون من مجرد بائع للأسلحة إلى مشارك في الحصار.
انزلق الفرنسيّون من مجرّد بائع للأسلحة إلى مشارك في الحصار


وفي آذار ٢٠١٦ عندما دخل جزء من أسطول الحصار السعودي أحواض الصيانة، حلّت سفن فرنسية محلها في عمليات المراقبة بموجب اتفاق موقع مع «هيئة تصنيع السفن» الفرنسية. ودخل ٣٩ زورقاً سريعاً فرنسياً، تم تسليمها خلال الفترة نفسها، في دوريات الحصار. وفي العام نفسه، أنجزت فرنسا تحويل هبة المليارات الثلاثة لتسليح الجيش اللبناني المقررة عام ٢٠١٤ بعد إلغائها، وتكييفها مع العمليات السعودية في اليمن. تم تسليم ٩٠ في المئة من أسلحة الهبة في الرياض، ودخلت مدرعات «الرينو شيربا» الـ٢٧٦ التي كان ينتظرها الجيش اللبناني في خدمة العمليات العسكرية ضد اليمن.
هل يمكن أن يكون نزع الألغام عمل إنساني في سياق اقتحام الحديدة وإزالة جزء من خط الدفاع البحري عن المدينة، وفتح الممرات البحرية نحو الميناء للسفن والبارجات الإماراتية والسعودية، بدعوى تسهيل حركة الملاحة وسفن النقل التي ستشرف عليها هذه البارجات؟ يقدم الفرنسيون عملية نزع الألغام وكأنها عملية «إنسانية» من خارج السياق العسكري، بينما تشترط عملية كهذه في الحالة الفرنسية تحديداً، بناء قوة حربية متخصصة بتفكيك الألغام، بقيادة هيئة أركان مستقلة. إن طبيعة المهمة التي يتحدث عنها بيان وزارة الدفاع من دون الإسهاب في التفاصيل تتطلب مشاركة أسلحة عدة من الجيش الفرنسي. وتفترض العملية تواجد سفينة تدخل وقيادة في الممرات البحرية نحو الميناء، وكاسحات ألغام ستأتي من قاعدة جيبوتي. والأرجح أن طبيعة الإشراك البحرية «اليدوية» التي أعدها «الحوثيون» في المنطقة، تتطلب إرسال سفن خاصة لفرق الغوص، للعمل على تفكيك هذا النوع من الألغام. لا تنحصر العملية الموعودة بالممرات البحرية بل وتمتد إلى القطاع البري في الميناء. يجري الحديث عن إيفاد السريتين ١٣ و٢١ من سلاح الهندسة الفرنسية التي اكتسبت خبرة كبيرة لنزع الألغام لمشاركتها في الحرب في مالي. إن حشد كل هؤلاء يتطلب إرسال فرقاطة متعددة المهام في منطقة عمليات عسكرية مستمرة تحمل على متنها طاقماً من تسعين بحاراً ومقاتلاً لحماية فرق نزع الألغام. ومن المؤكد أن العملية «الإنسانية» ليست إلا واجهة لعملية عسكرية واسعة.
وأبعد من الهيكلية العسكرية التي تمليها طبيعة المهمة، هناك أكثر من دافع سياسي وصفقات تسليح للمزيد من الانخراط فرنسياً في الحرب إلى جانب السعودية والإمارات. فأولاً، إن وزن المصالح المشتركة الفرنسية السعودية الإماراتية حكم قرار التوجه نحو الانخراط في تلك الحرب منذ ساعاتها الأولى، ووصلت صفقات الأسلحة مع السعودية وحدها إلى أكثر من ١٦ مليار دولار ما بين الأعوام ٢٠١٠ و٢٠١٦. لعبت العلاقة الخاصة التي ربطت الرئيس إيمانويل ماكرون بولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، دوراً في الدفع نحو المزيد من التورط الفرنسي في اليمن إلى جانب الصديق الإماراتي.
وثانياً، إنّ المشاركة في الحرب على اليمن، على رغم الحرص الفرنسي على دخولها دونما أي ضجيج، ليست سوى ثمرة تقاسم هدف واحد مع الإمارات والولايات المتحدة: تحجيم النفوذ الإقليمي لإيران. يقول مصدر فرنسي إن هذا التدخل جاء نتيجة قناعة بأن التقارب مع إيران، في ظل الهجوم الأميركي بعد إلغاء الاتفاق النووي، لم يكن مجدياً، وأنه من الأفضل الاستثمار مجدداً في التحالف مع الخليج وتعزيز العلاقات التجارية والتسليحية معه.
وثالثاً، إن تأثير المحافظين الجدد الفرنسيين في عملية صنع القرار لا يزال بيناً في اليمن، على رغم ادعاء ماكرون من اتجاهه نحو تحجيم نفوذهم بعد وصوله إلى الإليزيه. تنبغي الإشارة هنا إلى دور مستشار وزارة الخارجية الخاص، جان كلود ماليه، الذي يتقدم مجموعة من هؤلاء داخل المؤسسة الفرنسية، في إدارة سياستها «اليمنية». فبعد خمس سنوات أمضاها إلى جانب جان إيف لودريان في وزارة الدفاع انتقل وإياه إلى الخارجية، إلا أن «ماليه» احتفظ بتأثير كبير، فلورنس بارلي خليفة لودريان في الدفاع. إن جيوب المحافظين الجدد الناجية من عهود ساركوزي وهولاند الماضية في الخارجية والدفاع لا تزال مؤثرة في عملية صناعة القرار على ضفاف «السين»، وتدفع باتجاه المشاركة بفعالية أكبر في الحرب ضد إيران وحلفائها.