«سقطت ذراعك فالتقطها... وسقطتُ قربك فالتقطني... واضرب عدوّك بي»، عبارات متفرقة من قصيدة تعبّر تماماً عن «هذيان» العسكري وسط بشاعة الحرب السورية. فالسقوط على قدم واحدة أمر جائز في معارك متتالية كادت تمضي بالبلاد نحو الفناء. وإن لم يسقط عضو من الجسد في أي من المعارك، فهذا لا يعني أن القلب لا يحاول أن يستجمع بقاياه، قبل الفناء الروحي. هكذا هي الحال، من الصعوبة بحيث يبدو تفهّمها مستحيلاً، خارج تصنيفات التعاطف الكاذب الذي ردد شعاراته السوريون الملتفّون حول جيشهم، على مدى سنوات. الآثار النفسية للحرب على العسكريين السوريين ضباطاً ومجندين، مرّت بالكثير من المراحل المتردية. غير أن الباب لم يفتح يوماً على الإحساس الفعلي بالتكريم. مرسوم تشريعي جديد يقضي بزيادة 30 في المئة إلى رواتب العسكريين السوريين العاملين في المؤسسة العسكرية، جاء فجأة كنوع من التمييز الإيجابي. المرسوم رقم 9 لعام 2018، رسّخ نظرة عند القيادة، تشي بعدالة موعودة تجاه العسكريين، فيما حظي المتقاعدون منهم بزيادة 20 في المئة إلى معاشاتهم، وفق ذات المرسوم. وعلى رغم اعتراض بقية موظفي القطاع العام الذين أنهكتهم متطلبات المعيشة، منتظرين زيادة في الرواتب تخفف عنهم أعباء الحياة، تقبّل معظم الشارع الموالي للدولة والجيش، هذا التمييز المادي لمصلحة العسكريين، تعويضاً عن تقصير مجتمعي شامل تجاه هؤلاء، وما سرقته الحرب منهم. وليس خافياً أن القيمة المعنوية للمرسوم أكثر أهمية من المبلغ الزهيد المضاف، والذي يصل في أقصاه إلى 30 دولاراً، أي أقل من 15 ألف ليرة. «القيادة تشعر بنا»، «القيادة تقدّر جهدنا وتضحياتنا»، جملتان يرددهما الجنود كإشارة حياة التقطوا فيها شيئاً من العرفان. وتأتي هذه الزيادة وفق المرسوم الأخير بمثابة هدية منتظرة، على رغم المآزق الاقتصادية التي تواجهها الحكومة، بعد زيادة سابقة قدرت بـ 2500 ليرة في عام 2015، على رواتب العسكريين. تلتها زيادة أُخرى على رواتب العاملين في الدولة، قدّرها المرسوم رقم 13 لعام 2016 بـ 7500 ليرة. يتلقف العسكريون أخيراً البشرى تلو الأخرى، وعلى تواضعها، بعد ظلم طويل وقع عليهم. تسريح عناصر «الدورة 102»، أزاح بدوره هموماً كبرى عن قلوب الناجين منهم وعائلاتهم. وذلك على رغم عراقيل عدة حرمت بعض عناصر الدورة فرحة التسريح، إذ كان قرار تسريحهم قد جرى في عام 2012، ليتم طلبهم إلى قوات الاحتياط قبل تنفيذ القرار، ما منع احتسابهم ضمن الاحتفاظ التابع للدورة نفسها، وجعل مشكلتهم فردية لا تثير ضجة إعلامية. يعي الجنود في ما بينهم أن هُناك دورات في الجيش تسبق «الدورة 102»، منها الـ 88 والـ 90 والـ 94، وفيها جنود في قوات الاحتياط لدورة الأمن وحفظ النظام، بانتظار أمل ما في تسريح قادم. بضعة مئات من الجنود المنسيين قد لا يشكلون ضغطاً للبدء بحل أوضاع لا تطاق ومواجع لا صوت لها. وما الضغط الذي يمكن أن تشكله دورة بدأت بطلب 3 آلاف عنصر، في عام 2011، بقي منها بضعة مئات ما بين مصاب وشهيد وفارّ ومسرّح إفرادي! أضرار نفسية مهولة لدى هؤلاء، تتطلب تسريحاً فورياً والبدء بتقديم دعم اجتماعي لازم، باعتبارهم شهداء بجسد حاضر، وفق تعبير أحدهم.
ما الضغط الذي يمكن أن تشكله دورة بدأت بطلب 3 آلاف عنصر في عام 2011؟

يغض البعض نظرهم عن مصابي الحرب منهم، حين يصادفونهم في إحدى الدوائر الرسمية. الخجل يقطر من بعض العيون المتعاطفة، أمام فداحة الإصابة، لا سيما حين تصل إلى الشلل أو بتر أحد الأطراف. فيما يمكن أن تلحظ هؤلاء المصابين ينتظرون دورهم أمام مكتب لجنة فحص العاملين الحكوميين. لجنة من الأطباء في كل محافظة، تقدّر حجم الإصابة لتمنحهم التعويض المناسب، والذي لا يتناسب في أفضل الحالات مع هول الخسارة لدى كل منهم. وذلك بصرف النظر عن مزاجية أعضاء اللجنة وعدالة تقديرهم لخصوصية كل حالة والوضع النفسي لصاحبها. معونات حكومية أو تعويضات مالية أو وظائف تتناسب مع الإعاقة هي ما يمكن للحكومة توفيره لهؤلاء. ومع تأسيس الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية بالمرسوم رقم 9 لعام 2011، قدرت الحكومة السورية حينها تكلفة المعونات النقدية التي صرفت للمستحقين ما بين 10 إلى 12 مليار ليرة، استهدفت 420 ألف عائلة، من دون ذكر معايير الصرف أو التدقيق في موضوعيتها، لتحقيق الإفادة الأمثل. في حين وصلت قيمة مبالغ صندوق المعونة الاجتماعية إلى 15 مليار في العام 2017. ولرأب الفراغ الحاصل، تحاول مبادرات فردية وتطوعية وجمعيات مدنية تأمين المستلزمات الطبية أو أثمان العمليات الجراحية التي يحتاجها المصابون، تسهيلاً لمصاعب حياتهم الجديدة. وحددت «منظمة الصحة العالمية» و«المنظمة الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة»، في تقرير صادر قبل أشهر، أعداد المصابين بإعاقة دائمة بما يقارب مليون ونصف شخص مدني وعسكري، على مختلف المناطق السورية، بما فيها الخارجة عن سيطرة الحكومة. وعلى رغم هول الرقم وتشكيك بعض المصادر الحكومية بدقته، لا يختلف اثنان على خطورة الواقع المتعلق بالمصابين، والعسكريين منهم تحديداً، وضرورة تقديم الدعم اللازم لهم.