رام الله | التنكر بزي المقاومة أسلوبٌ لطالما انتهجته إسرائيل على مدار السنين، والحديث هنا عن مسار مختلف عن مسار قوات المستعربين الذين يتنكّرون بأزياء وهيئات لمدنيين فلسطينيين بأساليب متنوعة لتصفية مقاومين أو اعتقالهم، إذ إن الأخطر هو «اختراق القلعة من الداخل»، وهذا ما يلجأ إليه الاحتلال عبر ما بات يُعرف بـ«الخلايا الوهمية» التي صعّد من استخدامها منذ ثلاث سنوات.يقوم أسلوب الخلايا الوهمية على إنشاء ضباط جهاز «الأمن العام» الإسرائيلي (الشاباك) علاقةً مع شابٍّ فلسطيني متحمس للمقاومة بطريقة غير مباشرة أو مباشرة، بعدما يتنكر الضابط العدو كشخصٍ ممولٍ لأعمال المقاومة، أو كقائدٍ مجهولٍ في تنظيمٍ معين من مسؤولياته الإشراف على تشكيل خلايا عسكرية وأمنية، ثم يوصل رسالةً إلى الشاب بطريقة مجهولة كما هو متبع في العمل التنظيمي عادةً. ويطبق الفخ عندما يظن الشاب أنه وجد ضالته في هذه الرسالة، الشفهية أو المكتوبة أو عبر بناء الثقة، التي تدعوه للاشتراك في المقاومة.
مع ذلك، يحاول الضابط تقليل التواصل المباشر ويرتب لقاءات محدودة وجهاً لوجه مع الشاب المستهدف كي لا يثير الشكوك، فيما يبقى القسم الأكبر من التواصل عبر رسائل في نقاطٍ ميتة. وفي البداية، يطلب الضابط (القائد أو ممول الخلية الوهمي) تنفيذ مهمات صغيرة تبدأ غالباً بـ«أمور سهلة» مثل طلب مراقبة أشخاصٍ مشبوهين بالعمالة لدى العدو، أو توزيع معوناتٍ غذائية ومساعداتٍ بسيطة على عائلات الشهداء والأسرى، وذلك لتعزيز الثقة وطمأنة الشاب. بعد ذلك تأتي المهمة الأسوأ، إذ يطلب منه ترشيح مجموعة من الأسماء في محيطه (العمل، الجامعة، منطقة السكن)، ليشكّلوا خلية عسكرية ويكون قائدها الشاب الضحية، أما ممولها والمشرف عليها، فهو ضابط «الشاباك» الذي يبدو في هذه الحالة كرجلٍ من القيادة التنظيمية، أو كضابط مكلّف الاتصال، أو حتى ممولٍ للخلايا.
لاحقاً، يُفاجأ أفراد الخلية بأنهم معتقلون في قبضة العدو الإسرائيلي قبل تنفيذهم أي عملية، وتكون بداية الاعتقال عادةً لـ«الرجل الأول» الذي خدعه «الشاباك» وجنده ليوقع بأصدقائه دون أن يعلم، فيما تكون طرق الاعتقال كثيرة، إما بدهم البيوت، وإما باستدراج «القائد» نحو كمينٍ عند قدومه لتسلُّم الذخيرة من نقطة ميتة، أو خلال مجيئه لتسلُّم رسالة من النقطة نفسها، حتى تكون هناك تهمة إضافية في الملف.
يقول موقع «المجد» الأمني المقرّب من حركة «حماس» في تقرير صدر في بداية 2016، إن «مخابرات العدو تهدف من أسلوب الخلايا الوهمية إلى تحييد أكبر عدد ممكن من الشباب المتحمسين والثائرين ممن يمتلكون المبادرة، ولديهم الاستعداد للتضحية والمقاومة، إضافة إلى خلق تشويشٍ وإرباكٍ في صفوف التنظيمات». أكثر من ذلك، يؤتي هذا الأسلوب أكله عبر إرهاب الشباب الوطني المتحمس للمقاومة، وخلق حالة من الضبابية والإحباط أمامه، فتبدأ شريحة من الشباب بالإحجام عن العمل المقاوم خشيةً من الوقوع في شَرَك الخلية الوهمية.
أسلوب «التنظيم الوهمي» أو «الخلية الخادعة» ليس مستحدثاً، رغم أنه تكثّف لإحباط عمليات «انتفاضة القدس» التي لم تستطع إسرائيل السيطرة عليها، إذ تعود بداية استعماله إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، علماً أن المقاومة نفسها نفذت عمليات شبيهة إلى حد ما عبر «عملاء مزدوجين». ويذكر رئيس «الشاباك» آنذاك، يعقوب بيري، في مذكراته، أن هذا الأسلوب انطلق في بداية السبعينيات، لكنه «كان موجهاً نحو المستوطنين المتطرفين للحد من عملياتهم ضد اليسار الإسرائيلي». بعد ذلك، يكشف بيري نجاح أسلوب الخلايا الوهمية في «مكافحة عددٍ من الخلايا العسكرية الفلسطينية في منطقة قرى شرق نابلس»، وذكر منها: بيت فوريك، بيت دجن، بيتا، عقربا.
أعلن «الشاباك» في 2017 إحباط 400 عملية مع غياب اعتقال «الرأس المدبر» غالباً


كذلك، يؤكد رئيس آخر لـ«الشاباك» يدعى كارمي غليون في كتابه «الشاباك بين الانشقاقات»، أن الجهاز أنشأ خلية يهودية يمينية تابعة له وسمّاها تنظيم «أيال»، وفي ما بعد «حربة ديفيد»، بغرض اختراق هيكلية مجموعات اليمين المتطرف كإجراء استباقي لمعرفة نياتها وأهداف عملياتها تمهيداً للقضاء عليها. كان المسؤول عن هذه الوحدة الوهمية عنصراً في «الشاباك» عُرف باسم «الجاسوس شمبانيا»، وكانت آلية عمل الوحدة المتطرفة (الوهمية) تعتمد على تجميع المتطرفين اليهود في تنظيم واحد لإحباط أي هجوم قد ينفذونه لقتل إسرائيليين، ولمراقبة تحركاتهم عن كثب.
هكذا، يظهر أن درجة الخطر في الخلية الوهمية أكبر من الأساليب الأخرى كالعملاء أو عصافير السجون أو المستعربين، رغم أن كلها تعتمد على التنكر والخداع والتخفي وإجادة اللغة العربية والعادات والتقاليد المتعارف عليها فلسطينياً، لكن الخطر في هذه الخلايا أنها تتشابه إلى حدٍّ كبير مع المقاومة الفلسطينية الحقيقية، وما يصعّب اكتشاف التمويه طبيعة العمل السرّي للمقاومة، وحتى صعوبة السؤال عن شخص ما للاطمئنان إليه أحياناً.
وبتتبع قصص كثيرة، لا تزال أساليب «الخلية الوهمية» وطبيعتها غير ثابتة، ووفقاً لعددٍ من الأسرى المحررين، زج العدو بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي إلى واجهة العمل الاستخباري، فأصبحت تشكل بيئة خصبة له في هذا المضمار، إذ يمكنه أن يمارس مهمات عدة عبرها كالتعرف إلى طبيعة الأشخاص، وتجنيد آخرين إما كعملاء أو كمقاومين في خلايا وهمية. وتوضح مصادر خاصة أن الاحتلال منذ نهاية انتفاضة الأقصى الثانية (2005 تقريباً) استغل الفراغ الذي أحدثه غياب التشكيلات المتسلسلة للفصائل والأجنحة العسكرية في الضفة، وبدأ باستدراج شبّان فلسطينيين للعمل في المقاومة عبر استعمال هذ الأسلوب، بدءاً من الإنترنت، إذ يتستر ضابط «الشاباك» باسم أشخاصٍ عرب أو فلسطينيين أو تابعين لحزب الله في الخارج، وقد يسارع إلى إرسال مبالغ مالية من لبنان مثلاً بغرض إثبات جدّية العمل ولإقناع الشاب الفلسطيني أكثر، والمتكرر أنه سرعان ما يعتقل الشاب أو المجموعة قبل تنفيذ أي مهمة.
تضيف المصادر المطّلعة أن العدو كثف استعمال أسلوب «الخلايا الوهمية» ثلاث مراتٍ منذ عام 1990: الأولى تزامناً مع عمليات الثأر للشهيد المهندس يحيى عياش، ثم إبعاد أفراد من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» إلى مرج الزهور في لبنان، والثانية بعد الحرب الأولى على قطاع غزة ما بين عاميْ 2008 ــ 2010، إلى أن عاد وصعّد استخدامها منذ 2015 حتى اليوم تزامناً مع ارتفاع موجة العمليات الفدائية الفردية. وطبقاً لرصد التقارير الإعلامية، أعلن «الشاباك» وحده ــ من بين أجهزة أخرى ــ إحباطه العام الماضي (2017) نحو 400 عملية، من بينها 13 عملية تفجير استشهادية، لكن التدقيق في لوائح الاتهام للمعتقلين على هذه الخلفية يدل على أن رأس الخلية لعب دوراً أساسياً ولم يُعتقل.
من جانبٍ آخر، ورغم صعوبة الإفلات من فخ الخلية الوهمية عند الوقوع فيه، وما تعكسه خطورة هذا الأسلوب على معنويات الشباب والمقاومة، تكشف المصادر أن بعض الأسرى الفلسطينيين المتهمين بقيادة خلايا عسكرية أخيراً استغلوا أسلوب العدو نفسه كـ«ثغرةٍ للتغطية على زملاء حقيقيين لهم في الخلية»، فعندما يسأل «الشاباك» المقاوم عند اعتقاله عن الشخص الذي نظّمه أو مشرف خليته، يكون الجواب: «شخص مجهول تواصل معي عبر الإنترنت، أو ترك لي رسالة في نقطة ميتة ما»، ليخرج من ذلك بأقل الخسائر.