الجزائر | في 13 آذار/ مارس 1963، زار العاهل المغربي الشاب الحسن الثاني، الجزائر وفي جيبه نقطة واحدة في جدول الأعمال ينوي مناقشتها مع الرئيس أحمد بن بلة: التفاوض حول إعادة رسم الحدود بضم أجزاء من جنوب غربي الجزائر الغني بالمناجم والغاز. عن أسباب ونتائج تلك الزيارة وتحضيرها وكواليسها، كُتبت مئات المقالات وأدلى المسؤولون المغاربة بمئات التصريحات ودُوّنت أيضاً في مذكرات العديد منهم. ومن بين ما جاء في تصريحات متطابقة في محتواها، أدلى بها في فترات مختلفة عبد الهادي بو طالب، وهو المستشار الخاص للملك وكان ضمن الوفد، وأحمد بوستة وعبد اللطيف الفيلالي، وهما شخصيتان بارزتان في المغرب سبق لهما أن تقلدا منصب وزير الخارجية، أنّ الملك جاء إلى الجزائر محمّلاً بهدايا قيّمة من بينها سيارة مرسيدس لكل واحد من وزراء الحكومة الجزائرية. وكان الأمل يحدوه والتفاؤل يغمره بالعودة إلى الديار وقد حقق المراد. ولمناسبة الزيارة، نشرت جريدة «العلم» الصادرة عن «حزب الاستقلال» الموالي للقصر مقالاً وضعت فيه جردةً بمطالب بلدها الترابية بالمنطقة مرفقةً بخريطة الدولة المغربية التي يسعى الملك والحزب لتحقيقها، وتضم المغرب الحالي ونحو 38 في المئة من الجزائر والصحراء الغربية وموريتانيا بكاملهما، ونحو الثلث من دولة مالي، لتنتفخ مساحة المملكة وتتوسع أكثر من ست مرات من حجمها الحقيقي (من 446 ألف كيلومتر مربع إلى ما يزيد على ثلاثة ملايين كلم مربع). وسمى كاتب المقالة، في حينه، الدولة بحجمها الجديد «المغرب الكبير»، وأشار إلى أنّ هذه هي حدود المملكة قبل احتلال المنطقة وهي التي يجب أن تعود. وعاد الكاتب إلى زمن حرب استقلال الجزائر التي كانت قد وضعت أوزارها قبل عام، وأكد أن الملك محمد الخامس قد تلقى وعوداً من قيادات جزائرية بإعادة النظر في الحدود التي وضعها الاحتلال. ردّت الجزائر بحملة إعلامية على ما سمته «المساعي التوسعية المغربية» ورفضت «المطالب الترابية»، ولأنّ الحرب الباردة كانت على أشدّها، وقف المعسكر الاشتراكي وحركات التحرر الوطني والأحزاب اليسارية والثورية في البلدان الرأسمالية في صف الجزائر، وشنّت مصر حملة إعلامية واسعة النطاق، ذكّرت فيها أنّ الجزائر بحاجة لمن يقف معها لحماية استقلالها وكل شبر من ترابها الذي «تحرر بدماء مليون ونصف مليون شهيد»، وكانت «صوت العرب» تبدأ أخبارها من الجزائر، تماماً كما كانت زمن الثورة التحريرية. وكتبت الصحف المصرية تقارير وافتتاحيات حماسية وثورية، فيما انقسم باقي العرب بين محايد ومؤيد للمغرب، كما أيّدتها دول غربية أخرى، بخاصة فرنسا.توترت الأجواء بين الجارتين، وصارت تُنذر بالانفجار، في وقت كانت الجزائر مضطربة بعصيان في منطقة القبائل قاده الزعيم الثوري حسين آيت أحمد، بعد خلاف سياسي مع رفاقه، خصوصاً الرئيس أحمد بن بلة، وآخر في الصحراء قاده العقيد الشاب (29 سنة) محمد شعباني، أحد كبار القادة العسكريين الذين أفرزتهم حرب الاستقلال.
كان الملك الحسن الثاني يريد إعادة رسم الحدود بضم أجزاء جزائرية


وفعلاً، انفجر الوضع وبدأت المواجهات حين هاجمت قوات برية مغربية منطقة تندوف في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1963، و«احتلتها ورفعت عليها علم المغرب وأعلنتها منطقة ملحقة بالمملكة على أمل تحرير بقية الأراضي، ومنها بشار ولقنادسة وأدرار وتيميمون حتى عين صالح بولاية تمنراست»، وفق ما قال محمد بوستة في مداخلة ضمن حصة بثتها قبل سنوات قناة «المغرب2» (2M Maroc). الهجوم المغربي دفع الجزائريين إلى تجاوز خلافاتهم الداخلية، فعلّق شعباني تمرده وشارك جيشه بقوة في تحرير الأراضي التي سيطر عليها المغاربة، واحتلت قوات جزائرية أخرى بهجوم خاطف منطقة فقيق الواقعة شمالاً داخل التراب المغربي، وعرض وزير الدفاع الجزائري وقتها العقيد هواري بومدين، المقايضة كحل لإنهاء النزاع والإبقاء على الحدود كما كانت قبل الأزمة والجنوح إلى سلم دائم.
توقف القتال في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر وعادت الجيوش إلى حدود البلدين الأصلية، بوساطة ناجحة من منظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية وتمّ توقيع اتفاقية نهائية للنزاع في 20 شباط/ فيفري 1964 في عاصمة مالي باماكو، من قبل الرئيس أحمد بن بلة والملك الحسن الثاني، بحضور زعماء افارقة وحشد من مسؤولي البلدين. لكنّ التجييش والشحن الإعلامي استمر. وظلّ المسؤولون المغاربة والاعلام المغربي يعتبرون محافظات جزائرية بأكملها أراض مغربية محتلة، ويطلقون عليها «الصحراء الشرقية». ولم تكن المغرب وقتها تعترف باستقلال موريتانيا، واعتبرتها دائماً جزءاً منها ولم يتسن لها بفعل «الفيتو» المغربي الانضمام إلى جامعة الدول العربية إلا بعد 13 عاماً من استقلالها ودخلت موريتانيا الجامعة في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 عند افتتاح اجتماع القمة في الجزائر. وجاء ذلك متزامناً مع حصول تطور مهم في قضية تصفية الاستعمار بالصحراء الغربية بإعلان قيام جبهة البوليساريو وانتهاجها الكفاح المسلح ضد القوات الإسبانية المحتلة. وانتهت أسطورة «المغرب الكبير» الذي سعى إليه القادة المغاربة وتقلصت خريطته إلى حدوده الطبيعية حين اعترفت الرباط بموريتانيا دولةً مستقلةً، وبحدود الجزائر ومالي، وقبولها تقاسم أراضي الصحراء الغربية مع موريتانيا بموجب اتفاق مدريد الذي وُقِّع يوم 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، أي قبل أسبوع من وفاة دكتاتور إسبانيا فرانشيسكو فرانكو. كان ذلك الاتفاق بمثابة شهادة «سوء سلوك» اشترك فيها قادة اسبانيا (البلد المحتل للصحراء منذ عقود) والمغرب وموريتانيا (المحتلين الجديدين) بعقد بيع غير شرعي دفع أعداداً كبيرة من الصحراويين، خصوصاً من النساء والأطفال والعجزة، إلى عبور الحدود الجزائرية هرباً من الاضطهاد، وأُقيمت لهم وقتها مخيمات موقتة برعاية أممية، وهي في كل الاحوال مثل بقية مخيمات المعذبين المضطهدين ليست إقامات رفاه أو نزهة، بل هي دار لجوء قسري إلى حين. أما الشباب، فقد ظلّوا في إطار جيش التحرير الوطني الصحراوي يواصلون العمل المسلح لتحرير بلادهم، 15 عاماً بعد خروج إسبانيا، وتوقف ذلك استجابة لنداء أفريقي ـــ أممي يضمن تنظيم استفتاء تقرير المصير، يُبدي فيه السكان رغبتهم إنْ كانوا يريدون الانضمام للمغرب أم يرغبون في الاستقلال. ومع أنّ قبول الاستفتاء يُعتبر تنازلاً كبيراً من الصحراويين على اعتبار أنّ هذه الخطوة إنْ كانت لازمة فينبغي أن تكون حول البقاء ضمن المستعمر الإسباني أو الاستقلال كما حدث في كل استفتاءات الدنيا وليس الخيار بين الاستقلال والاحتلال الجديد، لكن المغرب تراجع في عهد محمد السادس بعدما كان والده الحسن الثاني قد وقّع على التزام بتنظيم الاستفتاء بإشراف أممي. وتدعم موقفه هذا مشيخات ترى أنّ ذلك البلد صغير لا يستحق الاستقلال، مع أنّ الصحراء الغربية بلد كبير وغني مساحته تساوي 25 مرة مساحة قطر و350 مرة مساحة البحرين و15 مرة مساحة الكويت وأكثر من ثلاث مرات مساحة الإمارات، وأكثر من نصف مرة مساحة المغرب.
مع كل هذا، وبفعل الاحتلال، تبقى نسبة عالية من السكان مشردة في المخيمات ونسبة أخرى في الداخل تتطلع إلى الحرية. وخلال أكثر من 18 عاماً من حكم محمد السادس، سعى النظام في المغرب لتجاوز واقع احتلال الصحراء بتحييد جبهة البوليساريو والدعوة إلى التفاوض مباشرة مع الجزائر، ثمّ محاولة تسجيل القضية ضمن اهتمامات أميركا وإسرائيل والسعودية في المواجهة الجارية مع إيران. فحين يقول إنّ حزب الله اللبناني درب جيش البوليساريو من خلال سفارة إيران بالجزائر، فهو جمع كل مستلزمات بناء نموذج من أقبح ما يُمكن أن تكون عليه الوشاية والبهتان. والسؤال الذي يطرحه السياسيون هذه الأيام: لماذا استعجلت السلطات المغربية في إثارة الشغب في شمال غربي أفريقيا على رغم علمها أنّ جميع من تستند إليهم لدعمها، خصوصاً إسرائيل ودول الخليج، منشغلون اليوم بملفات على ساحات أبعد؟ ويعلم المغرب أيضاً أنّ حرب اليوم ليست مثل «حرب الرمال» وله في الحروب الجارية مثال ساطع... والسؤال الذي يطرحه الخيّرون في البلدين: إلى متى تبقى الجزائر والمغرب تشعران أنّ الجغرافيا قد خذلتهما؟