في جولة سابقة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى الخليج، استخدم الرجل المنطق الكلامي التصعيدي للسلطة الفلسطينية ورواد عملية التسوية، حينما قال إن استمرار الاستيطان الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية والقدس المحتلتين هو «استفزاز مطلق». وكان حديث أردوغان آنذاك (شباط 2017) من العاصمة البحرينية المنامة، حيث تقيم الأخيرة علاقات ودية مع إسرائيل مثل أنقرة، وذلك تعقيباً على إعلان حكومة الاحتلال بناء 3000 وحدة استيطانية جديدة، وأيضاً صدور تشريع يتيح للمستوطنين سرقة الأراضي. تبع ذلك عدد من التصريحات لمسؤولين ومتحدثين رسميين أتراك حول عدم شرعية الاستيطان، وانتقاد السياسات الإسرائيلية، ودعم مطالب الفلسطينيين في هذا الملف.لكن هذا الحديث، مضموناً وشكلاً، يختلف كلياً عن الواقع الذي يظهره التقرير السنوي لـ«دائرة الإحصاء» التركية، بعدما بيّن التقرير أن تركيا تحتل المرتبة الأولى في الدول التي تزود إسرائيل بالإسمنت والحديد والصلب، موضحاً أن أنقرة صدّرت ما يزيد على مليون طن من الإسمنت إلى تل أبيب خلال العام الماضي فقط.
وفي إحصاء شمل الأعوام الـ15 الأخيرة ــ أعوام حكم حزب «العدالة والتنمية» ــ قالت صحيفة «ميلي غازيتا» التركية إن إسرائيل استوردت 16.9 مليون طن من الإسمنت، منها 9.8 مليون طن من تركيا، وهو ما نسبته 57.9 في المئة من حاجة هذه المادة. أيضاً أوردت الصحيفة أن تل أبيب استوردت حديداً خلال 2017 بما قيمته 1.2 مليار دولار، 45.3 في المئة منها قادم من تركيا وقيمته 544 مليون دولار، ثم تأتي الصين في المرتبة الثانية بعدما صدّرت حديداً بإجمالي 269 مليوناً (ما نسبته 22.4 في المئة).
ومن نافلة القول إن أنقرة كانت قد خفضت علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب إثر حادثة سفينة «مافي مرمرة» لكنها كثفت علاقتها الاقتصادية بعد تلك الحادثة، وهو ما تؤكده بيانات الإحصاء الرسمي التي تبيّن أن صادرات تركيا من الإسمنت إلى إسرائيل خلال 2009 كانت نحو 590 ألف طن، فيما جاءت صادراتها من الصنف نفسه في 2011 بمقدار 725 ألف طن، أي بزيادة تقدر بـ22.8 في المئة، وفق «دائرة الإحصاء» التركية. الأمر نفسه بالنسبة إلى صادرات الحديد والصلب، فمن 213 مليون دولار في 2009 إلى 332 مليوناً في 2010، ثم 437 مليوناً في 2011، حتى وصلت إلى 544 مليوناً في العام الماضي، وهو ما يرسم علامات استفهام حول التصريحات الرسمية التركية في موضوع الاستيطان.
الارتفاعات التي سجلتها التجارة المشتركة بعد حادثة مرمرة «عالية ونوعية»


وبالسؤال عن المورد الذي تصب فيه كل هذه المواد، من المهم الإشارة إلى أن المستوطنات الإسرائيلية تشكل ما نسبته 42 في المئة من مساحة الضفة المحتلة، وبعبارة أخرى: إن 68 في المئة من مساحة المنطقة «ج» في الضفة تمت السيطرة عليها لمصلحة المستوطنات، وهي المنطقة التي تضم 87 في المئة من موارد الضفة الطبيعية و90 في المئة من غاباتها و49 في المئة من طرقها. في المقابل، يُسمح للفلسطينيين باستخدام أقل من 1 في المئة من تلك المنطقة بحجة أن أراضيها «مناطق عسكرية» أو «مناطق خضراء» أو «أراضي دولة» أو «أراضي مستوطنات»، وهو ما يعني أن المساهمة في بناء المستوطنات بأي طريقة كانت يضر الفلسطينيين بصورة كبيرة.
وجراء التوسع الاستيطاني المستمر تُضخّ الواردات التركية الخاصة بالبناء إلى هذه المستوطنات، في وقت يتكبّد الاقتصاد الفلسطيني فيه خسائر سنوية فادحة بسبب الاستيطان، إذ يُمنع الفلسطينيون من الوصول إلى أراضيهم ومصادر رزقهم وأماكن عملهم. وبلغت الخسائر المباشرة وغير المباشرة نتيجة الاحتلال والاستيطان سبعة مليارات دولار، و3.4 مليار بسبب قيود الاحتلال المفروضة على الفلسطينيين للوصول إلى أراضيهم وأعمالهم في مناطق «ج». ومن جهة أخرى، يستهلك المستوطنون في الضفة من المياه ستة أضعاف ما يستهلكه الفلسطينيون البالغ عددهم نحو 2.86 مليون نسمة.
يذكر أن اتفاقية التجارة الحرة التركية ــ الإسرائيلية قد تم تدشينها بالاتفاق الموقع في آذار 1996 ودخل حيز التنفيذ في أيار 1997 وشمل العديد من المجالات التجارية والفكرية وغيرها. وفي ما بعد، وقّعت الدولتان مسودة إضافية للاتفاق في كانون الثاني 2000، ألغت بموجبه الدولتان الضرائب والرسوم الجمركية على المنتجات الصناعية، إضافة إلى منح كل منهما الآخر تخفيضات جمركية غير محدودة على المنتجات الزراعية. تلى ذلك في 2006 و2007 تقديم كل طرف قوائم منقحة للمنتجات الزراعية التي تحظى بمعاملة تفضيلية لدى الطرف الآخر بموجب الاتفاق الأصلي.
في هذا السياق، تعتبر إسرائيل واحدة من الدول العشرين الأولى التي تنشط تركيا في التجارة الخارجية معها، فوفقاً للبيانات الصادرة عن «معهد المعايير التركية» حول التجارة الخارجية في تشرين الثاني 2016، يقدّر إجمالي الصادرات التركية إلى إسرائيل بنحو 2.7 مليار دولار ما بين كانون الثاني إلى تشرين الثاني 2016، مسجلاً زيادة بنسبة 9.2 في المئة مقارنة بالمدة نفسها من 2015. أيضاً ارتفع حجم الصادرات الشهرية إلى إسرائيل في تشرين الثاني 2016 بنسبة 8.8 في المئة مقارنة بتشرين الثاني 2015 بعدما بلغ نحو 240 مليون دولار.