تونس | للانتخابات البلديّة أكثر من وجه ورهان. فهي، من الناحية الزمنيّة، جاءت بعد تأجيلها مرتين، وسبقت الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة التي ستعقد العام المقبل، ما يجعلها بالون اختبار مثالي. في وقته، عكس التأجيل تردّد أغلب الأحزاب وخشيتها من تحصيل نتائج سلبيّة، خاصّة وسط توقعات تشير إلى عزوف انتخابيّ كبير، ما أدى إلى تأخير التصويت في البرلمان على «مجلة الجماعات المحليّة» التي مررت أخيراً قبل أيام فقط من الانتخابات. في نهاية المطاف، تبنّت المجلة مساراً تدريجيّاً في نقل الصلاحيات نحو البلديات (والجهات والأقاليم التي ستنتخب تباعاً)، وقد يصل تطبيق كلّ ما فيها إلى عقدين من الزمن، وذلك خوفاً على الإضرار بوحدة الدولة. كذلك لم تبلغ نسبة الناخبين مستويات كارثيّة، فهي لا تبتعد كثيراً عن أرقام الانتخابات المحليّة في بلدان لها «ديموقراطيات عريقة». أما نتائج الانتخابات في حدّ ذاتها، فيجب تناولها حالة بحالة لفهمها أكثر، أي في ما يخصّ كلّ حزب أو ائتلاف على حدة.
«النهضة»: انتصار آخر لنهج الغنوشي
منذ رجوعها إلى النشاط في تونس، بدأت «النهضة» بتبنّي سياسة انتخابيّة جديدة تتخذ منحى تصاعديّاً، وتقوم على تبنّي وجوه من خارجها من دون دمجها في ماكينتها السياسيّة. وبدأ هذا التوجّه، في مرحلته الجنينيّة، مع انتخابات «المجلس التأسيسي» عام 2011، حيث شملت لوائحها بضع شخصيّات مستقلة لها ثقل اعتباريّ، على غرار رجل الأعمال محمد فريخة والمثقّف أبو يعرب المرزوقي، أو تحمل شكلاً مختلفاً عن «الشكل المعياريّ» لأعضائها، مثل سعاد عبد الرحيم التي لا تضع حجاباً. استمرت هذه السياسة في الانتخابات التشريعيّة عام 2014، وترافقت مع توجّه مماثل من داخل الحركة نفسها هذه المرة. فإلى جانب تهميش أبرز الأصوات الجذريّة، لم تتم إعادة ترشيح أغلب البرلمانيّين المحافظين، وذلك كما تُظهر دراسة أجراها شاران غريوال، قارن فيها بين توجهات تصويت النواب داخل البرلمان وإعادة ترشيحهم. إضافة إلى ذلك، دفعت «النهضة» بأصوات أكثر ليبراليّة لتولّي الشأن الحكوميّ، ويمكن هنا الإشارة إلى الوزيرين زياد العذاري وعماد الحمامي.
«سياسة الانفتاح» كما تسمّيها «النهضة» يسيطر عليها شقّ الغنوشي


«سياسة الانفتاح» كما تسميها «النهضة» التي يسيطر عليها شقّ رئيسها ومؤسّسها راشد الغنوشي، بلغت ذروتها مع الانتخابات البلديّة، خاصّة أنّها أوّل انتخابات وطنيّة بعد المؤتمر العاشر للحركة (صيف 2016) الذي جرى فيه الفصل بين الدعوة والسياسة، أو ما سُمي رسميّاً «التخصّص الوظيفيّ». لم تكتف الحركة بفتح لوائحها مناصفة مع المستقلين، بل منحت كذلك رئاسة بعض اللوائح لوجوه تراوحت بين رجل أعمال يهوديّ في مدينة المنستير الساحليّة (مسقط رأس الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وتُحسب تقليديّاً على خطّه السياسي المعادي للإسلاميّين)، وامرأة «حداثيّة» في ضاحية سيدي بوسعيد السياحيّة في العاصمة، وعميد متقاعد من الجيش في مدينة قابس جنوب البلاد.
مبدئيّاً، يبدو أنّ لسياسة الغنوشي وشقّه أثراً فعليّاً على مستوى انتخابيّ ودعائيّ، خاصّة وسط محيط وطنيّ وإقليميّ رافض للإسلاميّين، لكن لا يُمكن تأكيد تجذّر ملامح إعادة صياغة مشروع «حركة النهضة» ما لم تشمل جسدها التنظيميّ نفسه، فإلى حدّ الآن يبقى الأمر محصوراً في مستوى الخطاب والممارسة الانتخابيّة، وهي أشياء يمكن الارتداد عنها بيسر بمجرّد تغيّر الظروف.

«النداء» والمنشقون: البقاء للبسطاء
منذ صعود الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الجمهوريّة عام 2014، عرفت حركة «نداء تونس» هزات انشقاق عنيفة أدت إلى خروج مجموعات أسّست أربعة أحزاب جديدة، عرفت جميعها فشلاً بعجزها بداية عن تقديم عدد محترم من اللوائح الانتخابيّة ثم بفشلها في تحقيق فوز في البلديات التي ترشحت فيها. خلال موجات الانشقاق، انسلخت عمليّاً أهمّ قيادات الصفّ الأوّل في الحركة، وهم خليط مكوّن أساساً من يساريّين ونقابيّين قدماء ومثقفين، لم يبق في الحركة إلا بسطاء الناس ورجال أعمال يرأسهم ابن الرئيس، حافظ قائد السبسي، الذي يفتقد كاريزما والده (لم يُجرِ إلى حدّ الساعة حواراً متلفزاً أو خطاباً جماهيريّاً).
رغم كلّ ما قيل حول انتهاء «نداء تونس»، جاءت الحركة في المرتبة الثانية من ناحية النتائج. لتفسير ذلك، يمكن القول إنّ «النداء» قبل انتخابات 2014 ليس هو بعدها، فقد تحوّل من هيكل جمّع أعداءً للإسلاميّين قادمين من مشارب مختلفة حول شخصيّة الباجي قائد السبسي، إلى حزب سلطة يجمع أصحاب الطموح السياسيّ والراغبين في الاندماج داخل شبكات مصالح. ما سمح بذلك هو النواة الصلبة للناشطين القاعديّين الذين لم ينشقوا، وهي كانت وما زالت تتكوّن بشكل رئيسيّ من «التجمعيّين» (أي أعضاء حزب بن علي، التجمع الدستوري الديموقراطيّ) المتمرسين في العمل الميدانيّ وإغراء الناخبين ونسج تفاصيل المصالح الزبائنيّة.

ما بعد الانتخابات
عمليّاً، لن تغيّر هذه الانتخابات شيئاً. سيستمر تحالف حركتي «النهضة» و«النداء» حتى انتخابات العام المقبل، بعد تأكدهما من سلامة قاعدتيهما الانتخابيّتين، وهو أمر أكده الغنوشي. على مستوى العمل البلديّ، لا تختلف برامج المرشحين كثيراً، وحتى في حال عدم تحالف أحزاب السلطة، فإنّه يوجد رصيد واسع من المستقلين الفائزين الذين يمكن التحالف معهم، كما يمكن لهؤلاء التحالف أيضاً مع المعارضة في بعض المناطق. أما في ما يتعلق باليسار، وخاصة «الجبهة الشعبيّة»، فإنّ النتائج المحدودة قد تكون انعكاساً للجهود التنظيميّة المحدودة منذ الانتخابات الماضية، حيث لم يتم العمل على توسيع قاعدة المناضلين أو هيكلة «الجبهة»، بل على العكس من ذلك، عرفت الأعوام الماضية تشرذماً شمل انشقاق تنظيمات وشباب غاضب على حالة التكلّس الفكريّ والجمود الهيكليّ، وهي أشياء لن تخدم مستقبلاً سوى لصالح مدّ جذور أحزاب السلطة شعبيّاً.