«العمليات ما دون الحرب» المصطلح الذي صاغته عشرات الضربات الإسرائيلية في سوريا خلال خمسة أعوام قد يكون استنفذ أغراضه في التعبير عن استراتيجية ضبطت العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله في المقام الأول، والحرس الثوري الإيراني لاحقاً، لمنعهما من كسر ميزان القوى في سوريا، أو التأسيس لوجود مديد أو تثبيت قوة هجومية تهدّد إسرائيل تقلب المعادلات. الجرعات الإضافية لعمليات ما بعد الحرب، خصوصاً تلك التي أصابت صواريخها قاعدة للحرس الثوري في مطار «تي فور» للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في سوريا، دفعت إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من احتمالات الحرب نفسها في سوريا، واستئصال التهديد، ناعية بذلك استراتيجية الاحتواء التي لم تعد كافية بنظرها ونظر أميركا... وربما الغرب.اعتبارات داخلية وخارجية كثيرة تفسّر تدفق الجرعات الإضافية من العمليات العسكرية الإسرائيلية. أولها داخلياً وليس أقلها النزعة العدوانية الفطرية لدى الكيان الصهيوني لمواجهة أي تهديد في جواره المباشر، وثانيها التحولات البنيوية التي أدت إلى طغيان اليمين القومي والديني على المشهد السياسي، وداخل المؤسسات العسكرية والأمنية، وثالثها وآخرها المشكلات القضائية لبنيامين نتانياهو التي يمكن لها أن تودي بها إلى السجن ودخوله دوامة الهروب إلى الأمام نحو مغامرات قد تقوده إلى ساحات الحرب.
إن ما يمكن أن يضلّل الإسرائيليين ويدفع بهم إلى إساءة فهم ميزان القوى الحالي، وارتكاب خطأ الذهاب نحو الحرب ضد سوريا وإيران، هو المبالغة في قراءة تشدد المواقف الأوروبية والأميركية ضد إيران، خصوصاً في الملف النووي والتهديد بالغائه أميركياً. ذلك أنه من الممكن لإسرائيل أن ترى فيه فرصة لتصعيد الضغوط العسكرية مستفيدة من أجواء المطالبة الأوروبية بربط الملف الباليستي الإيراني بالنووي والدور الاقليمي لإيران في سوريا ولبنان والعراق واليمن، أي بمعنى آخر احتواء إيران وتكبيلها عسكرياً بشروط تقيّد الدفاع الإيراني الصاروخي كشرط لا بد منه كي تواصل أوروبا العمل على رفض إلغاء الرئيس دونالد ترامب «الاتفاق النووي الإيراني» قبل الثاني عشر من أيار. من جهة أخرى يتماثل الموقف الخليجي في شكل غير مسبوق مع إسرائيل لتشكيل تحالف غير معلن معها، لكي تقوم هي بما عجز الخليجيون عن القيام به، من دحر إيران وإخراجها من سوريا، وعدم الاكتفاء باحتوائها.
إن استراتيجية «الدحر» قد تفضي إلى سيناريو متدحرج من الضربات والردود التي تقود إلى حرب كبرى. وعلى رغم اشتداد الأخطار قد يعتبر الإسرائيلي أن لا خيار له سواه، وأن خوض الحرب اليوم أفضل منه غداً، قبل أن يعيد حزب الله وإيران ترتيب أوضاعهما، ونشر قواتهما في سوريا ما بعد هزيمة المجموعات المسلحة وطردها إلى الشمال والتفرغ لبناء معادلة ردع مع إسرائيل في سوريا مماثلة للبنان، وتطهير أطواق المدن السورية من أي تهديد مسلح واكتساب حرية الحركة والنقل والإمداد، أي اكتمال بناء منصة تهديد وجودي لإسرائيل في نهاية المطاف. قد يبالغ الإسرائيليون في تقديراتهم لحجم الانتشار الإيراني في سوريا عندما يتحدثون عن قوة برية من ٨٠ ألف مقاتل، وقد لا يبالغون. كما تشمل أهدافهم جزءاً بسيطاً من شبكة واسعة من مصانع الأسلحة ومستودعاتها الضخمة على الجبهة الجنوبية، وبطاريات الصواريخ التي لا تعد والتي لم تعد تقتصر على مخزون حزب الله، والقواعد التي تتداخل مع خريطة المطارات العسكرية السورية، لكنها مؤشرات جدية عن نضوج الانتشار الإيراني. ويمكن القول إن القوة التدميرية للمحور قد بلغت حداً لا يمكن للإسرائيلي احتماله، لذلك يرّوج الإسرائيليون لمقولة جديدة من أن أي حرب جديدة لا يمكن شنّها من دون مشاركة أميركية. إنّ ما يشجع إسرائيل على الانغماس أيضاً في مغامرة عسكرية في سوريا هو ظنون كبيرة تخامر أذهان قادتها العسكريين، من أن أي حرب قد تشهدها المنطقة لن تخوضها تل أبيب بمفردها، إذ لا بد أن تشارك فيها الولايات المتحدة إلى جانب الجيش الإسرائيلي على ما قاله النائب السابق لرئيس الأركان موشيه كابلنسكي مطلع الصيف الماضي.
تبدو هذه الظنون في محلها، ومتجانسة مع الحسابات الاستراتيجية الإسرائيلية، لكن هل من مصلحة الولايات المتحدة فعلاً الدخول في حرب تهدّد نيرانها بإشعال المنطقة بأسرها، وتتحول إلى مواجهة شاملة؟ عندما اتخذ الرئيس دونالد ترامب قراراً بقصف سوريا، ضغط البنتاغون والجنرال جيمس ماتيس لتخفيض سقف الضربة، تجنباً لمواجهة كبيرة يستهدف فيها وجود آلاف الجنود الأميركيين في العراق وسوريا والخليج. تبدو القيادة العسكرية الأميركية في موقع المدرك للأكلاف الباهظة لأي حرب غير محسومة النتائج سلفاً مع اتساع الجبهات، لا سيما في العراق. إذ تسود مساكنة إيرانية أميركية لا يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى التضحية بها في الوقت الراهن قبل اتضاح اتجاه التغييرات السياسية وتبلور صورة العراق ما بعد الانتخابات في الأيام المقبلة.
قد لا تكون حسابات العسكريين الأميركيين عن حجم الأكلاف التي ستدفع في حال إقدام إسرائيل على مغامرة عسكرية ضد سوريا وإيران هي نفسها الحسابات التي تجري في رأس ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان. تبدو مقاربة ولي العهد مطابقة للمقاربة الإسرائيلية في شأن إيران، ولكن نتائج أي مواجهة كبرى لن تكون سهلة الاحتمال لأنظمة الخليج الهشة إذا ما اتسعت المواجهة إلى حرب إقليمية على ضفتي الخليج، ولن يكون بمقدور أحد الرهان على صلابة هذه الأنظمة إذا ما تدحرجت كرة اللهب نحوها، وطالت المواجهة.
ومن الصعب تجاهل طرف آخر على أرض المواجهة في سوريا إذا ما وقعت، وهو روسيا. إن اندلاع أي مواجهة على نطاق واسع لن يسمح للروس بالبقاء على المسافة نفسها من إسرائيل وإيران في سوريا، والاكتفاء بدور ضابط الإيقاع وغض النظر عن الضربات الإسرائيلية التي بدأت بتهديد الإنجازات الروسية في سوريا منذ قرار التدخل فيها بالتفاهم بين الرئيس فلاديمير بوتين وقائد فيلق القدس قاسم سليماني في تموز عام ٢٠١٥، في مواجهة لحظة إجماع جارف ونادر للقوى الإقليمية هدّد دمشق.
وهل تقف روسيا على الحياد في حال اندلاع مواجهة شاملة تستهدف حليفتها إيران في سوريا؟
إن الشراكة المعقدة الروسية ــ الإيرانية في سوريا كانت حجر الزاوية لشراكة أكبر وأوسع في مواجهة الولايات المتحدة، التي تحولت هي أيضاً، وفي مجرى العمليات الميدانية في سوريا، إلى عدو رئيسي للقوات الروسية، خصوصاً بعد المذبحة التي طاولت مجموعات «فاغنر» العاملة لحسابها في شرق الفرات قبل شهرين ونصف الشهر بقصف أميركي من دون أن يتمكن الروس من الرد، أو اختراق خط الفرات بعد ذلك والذي تحول إلى خط أحمر، وحدود غير معلنة للانتشار الروسي الإيراني في سوريا. إن الشراكة الإيرانية ــ الروسية لم تعد مرتبطة بالجبهة السورية بل بسعي روسي في لحظة تجدد الحرب الباردة إلى عقد تحالفات لا بد منها في العالم لمواجهة التصعيد الأميركي في كل الساحات وانتعاش شعار توحيد الغرب في مواجهة موسكو العائدة بقوة، وهو الشعار الذي لم ينفك الرئيس إيمانويل ماكرون يردده منذ أشهر.
صعوبة أخرى في حصول إسرائيل على حلفاء من خارج الخليج للحرب التي قد تعد لها في سوريا. اندرجت الحروب الإسرائيلية السابقة ضمن استراتيجية أميركية عامة لتصليب وإدامة منظومة السيطرة على العرب. ففي الستينات من القرن الماضي، اعتبرت الولايات المتحدة وصول الجنود المصريين لدعم الجمهوريين اليمنيين تهديداً من الرئيس جمال عبد الناصر لمصالحها لاقترابه من منابع النفط السعودية المجاورة. وأصبح إزالة التهديد الناصري لها أحد الأسباب التي دفعت الإسرائيليين إلى شن الحرب على مصر عبد الناصر في عام ١٩٦٧. وفي تموز ٢٠٠٦، شنّت إسرائيل حرباً مماثلة ضد لبنان ومحور المقاومة الذي واجه التدخل الأميركي في العراق وهندسة كوندوليسا رايس والمحافظين الجدد لـ«الشرق الأوسط الجديد». أما اليوم وفي غياب الاستراتيجية الأميركية الواضحة في الشرق الاوسط وفي ظل رئيس أميركي أخرق، ومع قيادة إسرائيلية تجمع الفساد إلى التطرف، قد تندفع الأمور في اتجاه حرب مفتوحة غير مسيطر عليها، يفرض الطرف الاسرائيلي فيها أجندته الخاصة، مع ما يرافق ذلك من أكلاف باهظة لجميع الأطراف.