الجزائر | الأربعاء الدامي

  • 0
  • ض
  • ض

في الثاني من أيار/ مايو 1962، وقد كان يوم أربعاء كما هي حال هذا العام، وقد مضى شهران ونصف الشهر على وقف إطلاق النار بين الجيش الفرنسي وجيش التحرير الوطني الجزائري لفسح المجال أمام استفتاء تقرير المصير بعد 132 عاماً من الاحتلال الاستيطاني وأكثر من سبع سنوات من الحرب. كان ذلك اليوم دامياً، أُضيف فيه إلى سجل جرائم «منظمة الجيش السري O A S» الإرهابية الفرنسية 62 قتيلاً وأكثر من 250 جريحاً، خلفهم تفجير سيارة مفخخة وسط نحو ألف عامل تجمعوا على باب «مكتب التشغيل» قرب ميناء مدينة الجزائر. يتجمع مئات من الجزائريين كل صباح في ذلك المكان أملاً في الحصول على فرصة عمل يجنون بها قوت اليوم، وسيعيدون الكرّة غداً. فهم ليسوا عمالاً أجراء دائمين، ولا منتسبين للضمان الاجتماعي، ولا تشملهم قوانين التعويض في حال وقوع حوادث في مكان العمل. هم يعملون عموماً في تفريغ وشحن السلع، لذا تجد المستخدِمين يشغّلون من هم ببنية قوية فيما يعود معظم من أجسامهم نحيفة إلى ديارهم خائبين. كان ذلك اليوم مروّعاً. هرعت سيارات الإسعاف لكن من بقي على قيد الحياة من العمال ومن حلوا بالمكان لنجدة المصابين رفضوا نقل الجرحى خوفاً من أن تلاحقهم العصابات وتقتلهم كما حدث مرات عدة. كانت هذه المنظمة التي تضم آلافاً من الجنود والمستوطنين المسلحين ترتكب جرائمها منذ نحو عام، أي منذ ظهرت مؤشرات التوصل إلى اتفاق بين الحكومة الفرنسية وقيادة جبهة التحرير لإنهاء الحرب. وصل عدد هذه الجرائم، بحسب مصادر فرنسية، إلى نحو 2300 تفجير بالعبوات الناسفة و2500 اغتيال فردي و510 عمليات قتل جماعي بالرصاص. ناهيك عن أعمال تخريبية أخرى. ولئن كان تفجير الميناء حدث في سياق العمليات الإجرامية التي تلت اتفاق وقف النار، فإن تفكير الجناح المتشدد داخل قيادة الجيش الفرنسي في تشكيل جيش مواز لا يخضع للقانون العام بدأ مع ما صار يسمى «أسبوع المتاريس» في 24 كانون الثاني/ ينايرعام 1960 في مدينة الجزائر حين فوجئ الجميع بحركة عصيان في شكل «ثورة فرنسية» على هامش الثورة الجزائرية، ودام ذلك العصيان أسبوعاً خرج خلاله عشرات الآلاف من المستوطنين رفعوا شعارات معادية لحكومة الجنرال ديغول لعجزه على سحق الثورة. أقاموا المتاريس في وسط المدينة وهاجموا المؤسسات واشتبكوا مع قوى الأمن وخلفت الصدامات عشرات القتلى والجرحى. كان السبب المباشر لاندلاع هذة «الثويرة» إقالة الجنرال ماسو Massu من منصبه كقائد عام للقوات الفرنسية في الجزائر بقرار وقّعه الرئيس شارل ديغول قبل نحو أسبوع. غضِبَ غلاة الجزائر الفرنسية لأنّ الإقالة جاءت متزامنة مع المفاوضات الجارية بين الحكومة الفرنسية وقيادة جبهة التحرير لإيجاد ترتيبات إنهاء الحرب. وأشرف على تنظيم حركة الغضب هذه أربعة أشخاص من مهن مختلفة وأعمار مختلفة يجمعهم فقط السعي لحشد القوة لمواصلة الحرب حتى إلحاق الهزيمة بالثوار، على رأسهم بيار لاغايارد Pierre Lagaillarde (28 سنة) الذي سيكون له دور رئيسي في تشكيل منظمة الجيس السري الإرهابية. هو كان نائباً عن الجزائر العاصمة وضابطاً سابقاً في سلاح المظليين، يساعده الضابط السابق في جهاز الاستخبارات غي فورزي Guy Forzy (35 عاماً)، وتاجر يملك حانة بالمدينة اسمه جوزيف أورتيز Joseph Ortiz في العقد الخامس من العمر وروبير مارتيل Robert Martel البالغ 42 سنة، وهو صاحب مزارع وبساتين بسهل المتيجة. كانت تلك «الثورة» عبارة عن تمرين لما هو أكبر وأخطر. ففي 16 حزيران/ يونيو من العام نفسه، تأسس تنظيم من الداعمين لمواصلة حرب الجزائر باسم «جبهة الجزائر الفرنسية» كأداة توفّر الشروط لتنفيذ خطتين. الأولى هي الضغط على الحكومة الفرنسية حتى تواصل الحرب من دون هوادة ولا تدخل في أي مفاوضات قد تخسر فيها الجزائر كلياً أو جزئياً، وكان هذا الهدف هو الذي دفع هذا التيار المتشدد في الجيش الفرنسي لقيادة انقلاب منح شارل ديغول الرئاسة بصلاحيات استثنائية. والخطة البديلة هي الانقلاب والاستقلال بالجزائر عن المركز وإقامة نظام على شاكلة نظام البيض في جنوب أفريقيا. جاء تأسيس هذه الجبهة رداً على خطاب ألقاه الرئيس ديغول قبل يومين دعا فيه جبهة التحرير الجزائرية للتفاوض ولم يستعمل في ذلك الخطاب، للمرة الأولى منذ توليه الحكم في أيار/ مايو 1958، عبارة «الجزائر فرنسية». تزامن هذا المسعى مع صدور قرارات خففت الأحكام القضائية على من أدينوا في أحداث «أسبوع المتاريس» وأُفرج عنهم، بمن فيهم القيادات من الجيش. ورحل عدد منهم إلى إسبانيا وهناك أسسوا منظمة «الجيش السري» في 11 شباط/ فبراير 1961 وعادوا بعدها إلى الجزائر لتنفيذ الخطة البديلة وهي الانقلاب على حكومة الرئيس شارل ديغول في نيسان/ أبريل، بعدما تبين لهم أنّه ماض في طريق إيجاد حل تفاوضي مع الثوار لإنهاء الحرب على أمل إنقاذ فرنسا من الانهيار بسبب حرب استنزفت الاقتصاد وأطالت حالة اختناق المجتمع بالبطالة وتدهور الوضع المعيشي وانزلاق قطاع من الطبقة الوسطى إلى حالة الفقر. وكان أهم ما يمكن أن يحققه الفرنسيون في ذلك الوقت هو الوصول إلى اتفاق مع الثوار لوقف الحرب وحفظ ماء الوجه ببقاء بعض المصالح الفرنسية، ولو موقتاً في الجزائر. فجبهة التحرير مددت الثورة ثلاث سنوات أخرى، وهي مستعدة لتمديدها أكثر إلى حين تحرر كل البلاد. ورفضت إقامة دولة بمساحة فرنسا على شمال البلاد وترك الجنوب الغني بالنفط والغاز والماء ومنجم الذهب واليورانيوم بيد الفرنسيين. وكانت هذه خطة بديلة حملها الجنرال ديغول حين اعتلى الحكم لتطبيقها في حال فشلت الحرب في إخماد الثورة. ولما جرت مفاوضات الاستقلال الاخيرة في آذار/ مارس 1962 توصل الطرفان إلى اتفاق مرض يوقف اتجاه فرنسا إلى الهاوية ويحقق استقلال الجزائر التام، كما حدده بيان اندلاع الثورة، مع تفاصيل في مقدمها بقاء من يريد البقاء من الفرنسيين والأوروبيين عموماً كمواطنين في الدولة الجديدة، وهو أمر يخدم الجانبين... يخدم الجزائر لاستمرار خدمات النشاط الاقتصادي لعدم توافر الكفاءات المدربة والأموال اللازمة لاستمرار المنشآت، ويخدم فرنسا بحيث لا يتدفق عليها مئات الآلاف ممن يتعين عليهم الرحيل. لكن بعد أربعة أيام فقط من توقيع الاتفاق، وجّه الجنرال راؤول صالان، نداءً إلى اتباعه يدعوهم فيه إلى حمل اسلحتهم وإطلاق النار على وحدات الدرك والشرطة كونها تحمي اتفاق وقف النار. غير أن هؤلاء الأتباع وجهوا فوهات بنادقهم وتفجيراتهم للجزائريين بعد انسحاب الدرك والشرطة الفرنسية من الواجهة حتى لا تصطدم معهم. ودفعت تلك الهجمات عموماً، والتفجير الذي استهدف عمال الميناء خصوصاً، قطاعاً كبيراً من الجزائريين إلى إعادة النظر في اعتقادهم بإمكان بناء علاقات سلام مع الفرنسيين، بل دفع إلى ردود فعل انتقامية طاولت عدداً كبيراً من الأوروبيين، ما زرع الهلع في صفوفهم فصاروا يتسابقون على الرحلات البحرية والجوية للهجرة إلى فرنسا وهو وضع تضرر منه الطرفان.

0 تعليق

التعليقات