الرباط | بدأ كل شيء في مستهل الأسبوع الماضي حين أعلنت، فجأةً، شركة «مركز الحليب» زيادة في أسعار منتجاتها، فانعكس هذا القرار على منتديات النقاش في وسائط التواصل الاجتماعي، إذ تناولت الزيادة مواد استهلاكية أساسية.حصل الموضوع على صفة الحدث، وانتقل الأمر إلى طرح مقترحات للقيام بخطوات عملية لمواجهة هذا الأمر، فكان أن جاءت فكرة حملة «مُقاطعون» التي تداولها ناشطون على الفايسبوك، وقد أجمع أصحابها على الدعوة إلى مقاطعة ثلاث مواد استهلاكية هي «حليب سانطرال» ووقود شركة إفريقيا والمياه المُعلبة «سيدي علي». وبعد مُضي يومين من بداية الحملة، انتشرت أخبار آتية من مختلف أنحاء البلاد تفيد باستجابة واسعة للحملة، عززتها صور وتسجيلات فيديو تُظهر تكدساً للسلعتين، وهجر محطات الوقود المستهدفة من الحملة.
سرعان ما انعكست الحملة على المؤسسات الرسمية، إذ شهدت جلسة البرلمان يوم الثلاثاء الماضي، تدخلاً حاداً لوزير الاقتصاد والمال، محمد بوسعيد، الذي وصف الداعين إلى الحملة والمشاركين فيها بـ«المداويخ» (كلمة بالدارجة، تعني المصابين بالدوار). إلا أنّ تصريح الوزير أجّج موجات الانتقاد في وسائط التواصل الاجتماعي، خاصةً أنّ بوسعيد ينتمي إلى نفس الحزب (التجمع الوطني للأحرار) الذي ينتمي إليه مالك شركة «إفريقيا»، وهو وزير الزراعة والصيد البحري عزيز أخنوش. وكان أن استعرت الحملة أكثر، وقد استتبعها نقاشٌ سياسي في البرلمان لم يخلُ من حدة وتشنج، إلى حدّ مُطالبة بعض نواب البرلمان وزير الاقتصاد والمال بتقديم اعتذار «للشعب المغربي».
لعلّ الأفدح تمثّل في انتشار أكبر لحملة «مقاطعون» التي باتت آثارها تنشطر في مختلف الجوانب، فتمّ تداول عبارات استنكارية بكثافة عبر «فايسبوك»، تناولت ما أسماه أصحابها «جشع الباطرونا» و«الجمع بين السياسة والمال» و«احتقار المستهلكين»... فتدحرجت كرة الثلج.
مسؤولون آخرون أدلوا بآرائهم، إذ تحدّث مدير مشتريات شركة «مركز الحليب» عادل بنكيران، عما أسماه بـ«خيانة البلاد بسبب مقاطعة مادة الحليب ومشتقاته»، شارحاً أنّ «أربعمئة ألف فلاح (مزارع) مغربي تضرروا». ولم يزد ذلك حطب موقد حملة «مقاطعون» سوى اشتعالاً.
سرعان ما انعكست حملة «مقاطعون» على المؤسسات الرسمية


تمّ الحديث عن «أيادٍ سياسية خفية» حرّكت حملة «مقاطعون» لـ«غايات مشبوهة»، وقد صدرت هذه الاتهامات عن قياديين في حزب «التجمع الوطني للأحرار» الذي ينتمي إليه الوزيران. بُرِّرَت هذه الاتهامات بأنّ حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي الذي يقود الحكومة (يشارك في تشكيلتها أيضاً حزب «التجمع الوطني للأحرار») هو الذي يقف وراء حملة «مقاطعون». الاتهام وُجِّه تحديداً إلى رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران، الذي توصف علاقته بوزير الزراعة والصيد البحري عزيز أخنوش، بغير الودية باعتبار أنّ هذا الأخير كان مسؤولاً عما وُصِف بـ«البلوكاج الحكومي» الذي استمر طوال خمسة أشهر عقب الانتخابات التشريعية الأخيرة. في حينه، قاد أخنوش مفاوضات تشكيل ائتلاف حكومي مع رئيس الحكومة المُعيّن بنكيران، لكنها كانت عسيرة وأضنت بنكيران، وانتهى الأمر بتخلي الملك محمد السادس عن الأخير وعيّن زميله في نفس الحزب سعد الدين العثماني، رئيساً للحكومة. على هذا الأساس، يُتهم رئيس الحكومة السابق بنكيران، بخلق وتأجيج حملة «مقاطعون» التي تستهدف منتوجات غريمه، أخنوش.
تناسلت الاتهامات حتى باتت جدية، ما دفع بنكيران إلى الإدلاء بتصريح (نُسِب إليه من دون أن ينفيه)، يقول فيه: «مقاطعة منتوجات استهلاكية غير معقولة، لأنّ الزيادة في أسعارها لم يتم تنفيذها».
على المستوى الاجتماعي، سرى تفاؤلٌ بين عموم الناس في المغرب جراء نجاح حملة «مقاطعون»، إذ رأى فيها كثيرون مناسبةً جيدةً لإمساك المجتمع بزمام أموره من خلال مقابلة الزيادات في الأسعار وسوء تدبير الشأن العام بعصيان مدني يبدأ بمقاطعة مواد استهلاكية زِيد في ثمنها وصولاً إلى مجالات أشمل. في حين وصفها آخرون، وهم قلة، بـ«حملة قطيعية تمسّ الاقتصاد الوطني بأضرار جسيمة ولها انعكاسات اجتماعية وخيمة».
رغم عدم توفر معطيات دقيقة حول الآثار الاقتصادية لحملة «مقاطعون»، لكن ثمة أرقام نشرتها صحيفة «أخبار اليوم»، أفادت بخسائر فادحة، من بينها هبوط بنسبة ثلاثين في المئة من معاملات شركة «إفريقيا».
حملة «مقاطعون» تُعتبر سابقة في المغرب، فهي منحت للمرة الأولى وسيلة التصرف لشريحة واسعة من المواطنين لإبداء الرأي في مسألة حيوية تتمثل في مدى حرية أصحاب شركات المنتوجات الاستهلاكية في زيادة الأسعار التي ينص القانون على مشروعيتها. ويبدو أنّ هذه الحرية باتت منذ الآن مشروطة بقانون غير مكتوب: سخط المستهلك. المؤكد أنّ الإعراب عن هذا القانون الأخير، لم يعد منوطاً بالنقابات والأحزاب والجمعيات وما شابه، وإنّما بوسائط التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها «فايسبوك»، الذي بات حلبة لإدارة أهم المعارك التي تدور رحاها في المجتمع والدولة.



للملك مكان؟
ثمة ملمح سياسي واقتصادي من مستوى أعلى مما ذُكر سابقاً، وقد تمّ الحديث عنه بشكل أخف. يتمثل ذلك في أنّ شركة «مركز الحليب» تحوز ضمنها مجموعة «مدى» (الاسم الجديد للشركة الوطنية للاستثمار المملوكة للعائلة الملكية)، على ثلث الأسهم تقريباً. مُتناولو هذا الأمر تحدثوا عن مذمة الجمع بين «السياسة والمال» التي تخترق نسيج الاقتصاد المغربي برمته.