لم يتصوّر قادة «حزب الدعوة الإسلامية» أن يعودوا يوماً إلى العراق. كان ذلك حلماً بارداً يُسكِّنُ لهيب المنافي. محمد باقر الصدر، رمز الحزب الذي تأسس مطلع الستينيات، قُتل على يد الرئيس الأسبق صدام حسين. حادثةٌ دقت ناقوس الخطر، وأطلقت الإنذار بضرورة الخروج من البلاد، فتوزّع بعض القادة الشباب ما بين إيران وسوريا ولبنان (هؤلاء باتوا يسمّون لاحقاً بـ«الجناح الشرقي»)، فيما توّجه آخرون إلى أوروبا عموماً وبريطانيا والدول الاسكندنافية خصوصاً (عُرفوا باسم «الجناح الغربي»). أكثر من عشرين عاماً و«الدعويون» في المنفى، إلى أن جاء الاحتلال الأميركي، وسقط نظام صدام حسين في نيسان 2003. بسرعة عاد المحسوبون على «الجناح الشرقي» متخذين من البر مسلكاً للعودة، أما أولئك «الغربيون» فتمهّلوا قليلاً في العودة بعد طول فراق. عامان فقط سيصعد عقبهما نجم «الدعوة» ليتسيّد المشهد السياسي في بلاد الرافدين، منذ 2005 حتى اليوم.
13 عاماً من الحكم لم يفلح فيها «الدعوة» في تطوير بنيته الداخلية، أو هيكله التنظيمي، الذي بات «مترهّلاً» بوصف البعض. فالحزب تطغى عليه الصبغة النخبوية، البعيدة عن الجمهور، والعاجزة عن إنتاج طبقة جديدة من القادة الشباب. كما أن الأسس التي بُني عليها التنظيم في ستينيات القرن الماضي لا تزال قائمة إلى اليوم، ولم يطرأ عليها أي تعديل جوهري، فيما أظهر «الدعويون الكبار» تمسّكهم بمواقعهم، مقصين القادة الشباب، ليمنعوا بذلك ضخّ دم جديد، يسمح لـ«الدعوة» بالعودة شابّاً.
إبراهيم الجعفري، أول رئيس حكومة «دعوي»، حكم عاماً واحداً. وخَلَفه نوري المالكي في أيّار 2006 بطريقة دراماتيكية، بعد صراعٍ أميركي ــ إيراني على شخص رئيس الوزراء إثر انتخابات 2006. ولايةٌ أولى، تبعتها ثانية، والمالكي لا يزال في الحكم ساعياً للثالثة، قبل أن تتبدد آماله لأسباب عديدة. وبطريقة دراماتيكية أيضاً، خرج المالكي وجاء العبادي، وبدأ الشرخ بالظهور في صفوف «الدعوة». طوال السنوات الماضية (2014 ــ 2018)، كان أطول الأحزاب العراقية عمراً يعيش حالة تشظّ وتصدّع، بل يذهب البعض إلى القول إن «الدعوة في موتٍ سريري... وما من إنعاش يستطيع إحياءه»؛ فجناحا المالكي (الشرقي) والعبادي (الغربي) في تنافس/ صراع مستمر، وسط خطاب اتهامي بسقف عالٍ، وكل ذلك من شأنه بحسب مراقبين «تقريب موت الحزب»، لولا «الإسعافات» الإقليمية التي حرصت على بقاء «الدعوة» واحداً موحّداً، خصوصاً أن موجة الانقسام الأخيرة تزامنت مع انشقاق شخصيات كبيرة عن أحزابها الإسلامية، واتجاهها لتأسيس مكوّنات جديدة.

لقاء المالكي ــ العبادي
اليوم، يُسجّل فشل «الدعوة» في خوض أهم استحقاق سياسي منذ 2003 موحّداً، إذ تزعّم المالكي «ائتلاف دولة القانون»، فيما رأس العبادي «ائتلاف النصر». حربٌ حامية الوطيس بين الرجلين، تذكّيها «حاشيتهما» الساعية إلى الاستفادة من الشرخ الحاصل. يأمل العبادي بولاية ثانية، في حين يطمح المالكي إلى أن يكون «صانعاً» لرئيس الوزراء. ولأن العراق ساحة «اشتباك»، فعلى الراغب في أن يكون رئيساً للوزراء أن يحظى بدعم إقليمي ــ دولي من جهة، وينال تأييد الكتلة البرلمانية الأكبر من جهة أخرى. تشتّت «الدعويين» فرض عليهم البحث عن حلّ لمشكلة قد تخرجهم من الحكم.
انتدب المالكي والعبادي شخصين لتحقيق تفاهم ورؤية مشتركة


تقول مصادر متابعة، في حديثها إلى «الأخبار»، إن قيادة «الدعوة» تنبّهت إلى ذلك قبل أسابيع خلت، حيث شعرت بالقلق من إمكانية خروج رئاسة الوزراء من يدها، وبدأت حراكاً داخلياً تطوّر لاحقاً إلى حراك إقليمي بين طهران وبيروت، للملمة التشتت الحاصل. أول الاجتماعات بدأ بين المالكي والقيادِيَّين عبد الحليم الزهيري وطارق نجم في العاصمة بغداد، وانتهت إلى اتفاق على ضرورة رأب الصدع بعد الانتخابات بهدف تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر. بعد ذلك، بدأ حراك إقليمي من طهران إلى بيروت سمع خلاله «الدعويون» وجهة نظر واحدة، مفادها أنه «إذا أراد حزب الدعوة البقاء في الحكم... فعليه رأب صدعه وتوحيد جناحيه، وإلا خرجت رئاسة الوزراء من يده». نصيحة ثقيلة وواقعية في الوقت عينه، خصوصاً أن مؤشرات عديدة تشي بأن أطرافاً عديدة تطمح إلى تسلّم المنصب لامتلاكها أوراق قوة وغطاءً إقليمياً. عاد «الدعويون» إلى بغداد، وسارعوا إلى لقاء قيادتَي الجناحَين المتنافسين. أفضت اللقاءات إلى ضرورة عقد اجتماع بين المالكي والعبادي، فهما الوحيدان القادران على حسم خلافاتهما.
نهاية آذار الماضي، التقى الرجلان. زار المالكي خَلَفه. كان لقاءً إيجابيّاً، بتعبير مصادر «الأخبار»، إذ اتفقا على ضرورة الوحدة مجدّداً، حتى لا تخرج رئاسة الوزراء منهم، ويتحولا إلى «أسماء حكمت البلاد وكانت سبباً في فشلها»، تقول المصادر. وأفضى اللقاء، أيضاً، إلى ضرورة تشكيل لجنة مشتركة لتقريب وجهات النظر، ومحاولة البحث عن حلول لرأب الصدع. انتدب الرجلان شخصين عنهما، وأوعزا إليهما بالالتقاء لتحقيق تفاهم. لكن المصادر نفسها تؤكد أن المندوبَين لم يجتمعا حتى الآن، في ظل ارتفاع سقف الخطاب الانتخابي، وموقف «الحاشية» السلبي، الذي كان من جملة الأسباب المانعة للتقارب.

بقاء أم رحيل؟
ثلاثة أشخاص قادرون على لملمة الصف «الدعوي»: علي العلاق وعبد الحليم الزهيري وطارق نجم. تاريخهم يؤكد تأثيرهم في سياق ديناميات الحزب. «فلا يمكن أن تتحقّق الوحدة إلا من خلالهم» تقول مصادر «الأخبار». لكن، ثمّة ما يشي بأن سيناريو آخر، مرتبطاً بفشل العودة إلى «السقف الواحد»، يلوح في الأفق. في العراق اليوم حديث عن أن «الدعوة» يعيش آخر أيامه في الحكم، وأن الانتخابات المقبلة ستثبت أن الشارع تَبَدّل مزاجه، وأنه قد يمنح الفرصة لآخرين، في ظل تساؤلات حول موقف المرجعية الذي لا يمكن تجاهل أهميته وتأثيره على خيارات الناخب. وعليه، باتت فرص البقاء والرحيل متساوية، «إن لم نقل صعبة»، بحسب ما يقول مصدر سياسي رفيع.