لا يزال افتتاح أول صالة للعرض السينمائي في السعودية، بعد حظر دام 35 عاماً، يثير جدلاً متصاعداً في مختلف الأوساط داخل المملكة وخارجها. جدلٌ يُتوقّع أن يحتدّ خلال الفترة المقبلة، في ظل استمرار الإجراءات الرسمية المرتبطة بهذا «التحول»، ومع اعتزام الرياض افتتاح ثلاث شاشات عرض أخرى في الربع الثاني من عام 2018. وفيما تحرص «حاشية» الأمير محمد بن سلمان على تثبيت سرديته في شأن «العودة إلى ما كنّا عليه قبل عام 1979»، محاوِلةً تمويه أي اعتراض على التغييرات التي يقودها ولي العهد، تتعالى الأصوات الرافضة لتلك التغييرات سواءً من منطلقات دينية أو اقتصادية، فيما تُطرح المزيد من علامات الاستفهام حول موقف المؤسسة الدينية، وقدرة ابن سلمان على المضي في مخطّطه إلى أقصاه.يوم أمس، نشرت «الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع»، ما سمّته «نظام فسح وتصنيف المحتوى للأفلام» السينمائية التي ستُعرض داخل المملكة. وجاء نشر هذا النظام، الذي يوزّع المحتوى الفيلمي على 6 فئات، واحدة منها فقط متاحة لجميع الأعمار، بعد قرابة 3 أيام من تدشين أول دار سينما في مركز الملك عبد الله المالي في العاصمة الرياض، برعاية وزير الثقافة، عواد العواد، وحضور مسؤولين حكوميين وشخصيات أجنبية. ولعلّ أكثر ما لفت الانتباه في حفل الافتتاح هو اختيار فيلم «بلاك بانثر» (النمر الأسود) ليكون باكورة الأفلام المعروضة؛ ذلك أنه يحكي «قصة شاب ملكي يحوّل أمة»، على حدّ تعبير الرئيس التنفيذي لأوّل مشغّل لدور السينما في السعودية، شركة «إي أم سي» الأميركية، آدم أرون.
أراد ابن سلمان أن يفتّح الجمهور السعودي عينيه على قصة خيالية يعتقد أنها مماثلة لقصته، فوَقَع اختياره على «بلاك بانثر» الذي يدور حول مملكة أفريقية وهمية تُدعى «واكاندا»، يعمل ملكها، الذي وَرِث الحكم من أبيه، على حماية أرضه من التمزق، وفي الوقت نفسه تفتيحها على التفاعل مع العالم، مستعيناً بقوة خارقة هي نتاج دواء سحري. هكذا، وبواسطة ما يسمّيه «العلاج بالصدمة»، الذي قد يوازي في مخيّلة ولي العهد جرعة الدواء التي كان يتناولها ملك «واكاندا»، يتطلّع «الأمير المدلّل» إلى نقل مملكته من طورٍ إلى آخر مختلف تماماً، تكون الكلمة الأولى فيه للحريات الاجتماعية بدلاً من السياسية، وما إطلاق النشاط السينمائي يوم الأربعاء الماضي، الذي وصفه أرون بأنه «يوم تاريخي لنا ولكم»، إلا خطوة على هذا الطريق.
سُجّل إقبال شعبي كثيف على أول العروض السينمائية في الرياض


خطوة سيجد ابن سلمان نفسه محاطاً بمن يصوّرونها له «فتحاً مبيناً»، بالِغاً بهم التوهّم حدّ اعتبار السعودية اليوم «هادِياً ومرشداً» لأمم أخرى، من ضمنها إيران، التي يعود تاريخ تدشين دور السينما فيها إلى عام 1904. كذلك، لن يعدم ولي العهد مشائخ ودعاة يتجاوزون فتوى مفتي المملكة، عبد العزيز آل الشيخ، الذي كان وصف السينما بأنها «لا خير فيها، ومفسدة للأخلاق، ومدمرة للقيم»، ومن ضمن هؤلاء عضو الهيئة العامة للتوجيه والإرشاد في المسجد الحرام (سابقاً)، عبد العزيز موسى، الذي علّق على حدث الأربعاء قائلاً: «الحمد لله الذي بلّغنا السينما في السعودية، ولا عزاء للغلاة». حتى السفير البريطاني في السعودية، سايمون كوليس، كان له دوره في جوقة «التطبيل»، إنما تحت عنوان آخر؛ إذ نشر على حسابه في «تويتر» تسجيلاً مصوّراً له من داخل بلدة العوامية، الواقعة في المنطقة الشرقية، يقول فيه: «هنا هزمت السلطات السعودية الإرهابيين، وبدأت إعمار المجتمع».
المفارقة أنه في الوقت نفسه، كانت السلطات «تقطع الرأس السابع والأربعين خلال عام 2018» بحسب «المنظمة الأوروبية - السعودية لحقوق الإنسان». ووفقاً لتقرير نشرته المنظمة على موقعها، فإن معدل الإعدامات داخل المملكة خلال الربع الأول من العام الحالي ارتفع بنسبة 72 في المئة عما كان عليه خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ارتفاعٌ يمثّل وجهاً واحداً فقط من وجوه الاضطهاد المتواصل في السعودية، والذي سيظلّ يشكّل عامل اضطراب سياسي، على رغم إصرار الرياض على أنه لا وجود في الأصل لناشطين وحقوقيين ومطالب مشروعة، إنما مجموعة «مجرمين ومخرّبين». هذا الإنكار يرافقه تجاهل للسخط الشعبي على السياسات الاقتصادية، والذي تجلّى مجدداً مع تدشين العروض السينمائية، التي أثار التخطيط لها وتنفيذها في فترة قياسية استهجان سعوديين لمّا يلمسوا حلولاً لمشكلتَي البطالة والسكن وغيرهما. أكثر من ذلك، أنبأت ردود الفعل على السعر المحدّد لتذكرة حضور العروض السينمائية (20 دولاراً)، والذي وُصِف بأنه الأغلى في العالم، بأن خطط ابن سلمان لإرجاع السعوديين إلى السياحة والترفيه الداخليّين بدلاً من «الحجّ» إلى الخارج لن تسير وفق ما يشتهيه.
على مستوى حضور الجمهور، الذي تتقلّب قراءة «الحاشية الأميرية» لسلوكياته وفقاً لتقلب السياسات (يسهل الادعاء اليوم بأن لدى السعوديين نهماً في الثقافة الغربية والانفتاح والتعامل مع التكنولوجيا بعدما تم الإصرار سابقاً على طابعهم المحافظ)، برز الإقبال الكثيف على أولى العروض السينمائية، والذي وصل حدّ التدافع أحياناً، فضلاً عن نفاد التذاكر خلال عشر دقائق، إلا أن ذلك لا يمكن اعتباره مؤشراً شاملاً وعاماً؛ إذ إن ثمة فروقات داخل المجتمع السعودي يمكن ملاحظتها بسهولة من خلال اعتراض كثيرين على عملية «الإفساد المنظم والسريع للمجتمع»، كما أن الثقافة التي عمل رجال المؤسسة الوهابية على تأصيلها، والتي لا يمكن البتة تأريخها من عام 1979 الذي تصرّ الرياض على اعتباره نقطة انطلاق التطرف في المملكة، يصعب اقتلاع جذورها ما بين ليلة وضحاها. يعزّز صعوبة تلك المهمة، أن وجوه الوهابية، الذين لزِموا الصمت إلى الآن، قد لا يستطيع ابن سلمان أن يأمن جانبهم إلى ما لا نهاية، في وقت يتربّص فيه بولي العهد أقرباؤه ممّن أقصاهم، وهو ما يُضاعف حجم الأخطار المحدقة بعرشه.