فَتَح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حرباً جديدة، أضافها إلى قائمة معاركه الطويلة. تصويبه على أسعار النفط يوحي وكأن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لم يزر الولايات المتحدة منذ زمن، وهو العائد حديثاً من أطول زيارة يقوم بها مسؤول إلى بلد آخر، وكان يُفترض أن تنسج تفاهمات أكثر عمقاً من افتتاح مراكز الترفيه في بلاده. حديث النفط وأسعار براميله يتشابك فيه أكثر من ملف، لا سيما اقتصادياً، لكنه في توقيت قطف المنتجين ثمار انتعاش الأسواق بعد أزمة مستطيلة، بالتوازي مع استماتة النظام السعودي في تحسين العلاقة مع أميركا، يسلّط الضوء على نتائج زيارة ابن سلمان الأميركية، ويقدّم مؤشراً على أن علاقة البلدين لم تَرْقَ بعد إلى المستوى المأمول منها في الرياض. الجانب المأساوي من القضية أن ترامب لا يقابِل الرياض بالحماسة التي يبديها المسؤولون السعوديون. إذ يؤكد سيد البيت الأبيض، كل يوم، أن المنظار الذي يرى من خلاله المملكة لا يتغير: حلب المزيد من الأموال بلا ثمن يتعطش إليه ابن سلمان، وهو معاملة السعودية كحليف استراتيجي في المنطقة والعالم.وفق ثلاثة مصادر في قطاع النفط، فإن الرياض تحلم بارتفاع سعر البرميل إلى 80 دولاراً، بل إلى 100 دولار حتى. هذا ما نقلته «رويترز» أخيراً، وأكدت به معلومات كانت أفادت بها وكالة «بلومبيرغ» قبل أيام. وهو سعر تحتاجه الرياض وتسعى إليه بشدة في الخفاء، لتحقيق ثلاثة أهداف: دعم برامج التحول الاقتصادي (رؤية 2030)، ورفع ثمن أسهم «أرامكو» قبل طرحها للاكتتاب العام، وتقليص الاستنزاف في حرب اليمن. بمعنى آخر: كل السياسات تتوقف اليوم على سعر مرتفع لبرميل النفط، وارتفاع الأسعار يكاد يكون «حاجة وجودية» للمملكة على المدى المتوسط، وإن كان المسؤولون السعوديون يتكتمون على تأكيد هذا التوجه.
أفصح ترامب عن قلة اكتراث بمصالح السعودية ومساعيها لتقويم اقتصادها


لكن حسابات واشنطن تختلف تماماً. فما إن لامس سعر البرميل 74 دولاراً مُسجّلاً رقماً قياسياً جديداً منذ العام 2014، حتى رفع ترامب صوته ممتعضاً. وغرّد، أمس، قائلاً: «يبدو أن أوبك تقوم بذلك مجدداً»، مضيفاً أن «أسعار النفط عالية جداً بشكل مصطنع! هذا ليس جيداً ولن يكون مقبولاً». رسالة مباشرة وجّهها ترامب إلى السعوديين وشركائهم المعنيين باتفاق تخفيض الإنتاج، بأن الاتفاق يجب أن يتوقف، مُحدّداً الطريق إلى ذلك بإعادة العرض إلى التخمة عبر التلميح إلى «وجود كميات قياسية من النفط في كل مكان». «القرصنة الترامبية» لأسواق النفط في العالم، بلا مبالاة بمن يُفترض أنهم حلفاء سيد البيت الأبيض، بدت موُجّهة خصوصاً إلى الرياض، كونها أعقبت تصريحات لوزير النفط السعودي، خالد الفالح، رأى فيها أن «خفض مخزونات النفط يجب أن يستمر وما زلنا بعيدين عن هدفنا».
حتى مساء أمس، لم تعلّق الحكومة السعودية على تغريدة ترامب، التي أدت سريعاً إلى تسجيل تراجع طفيف في مؤشر أسعار النفط. يربط البعض تصويب ترامب سهامه نحو «أوبك» بـ«الحرب التجارية» التي يخوضها مع الصين، واحتمالات دعم قطاع الصناعة النفطية في أميركا. لكن في السياسة، تكشف مواقف الرئيس الأميركي هشاشة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة، ولو من طرف واحد، في وقت لا يوفر فيه ابن سلمان مناسبة لترميم الروابط بين البلدين. إذ أفصح ترامب عن عدم اكتراث بمصالح السعودية، وبكل مساعيها لتقويم اقتصادها المتضرر، معيداً تشكيل مفهومه للعلاقات بأنها استدرار للأموال السعودية بالسخرة، وبلا مقابل يوازي مئات المليارات التي تدخل جيوب واشنطن هذه الأيام.
وفق ما نقلت شبكة «سي أن أن» الأميركية عن مصادر في واشنطن، فإن إدارة ترامب تدرس ترقية السعودية لتصبح «حليفاً رئيساً من خارج الناتو»، لتكون للمرة الأولى مُصنّفةً رسمياً «حليفاً استراتيجياً» للولايات المتحدة. إلا أن اللافت في هذه المعلومات «المتفائلة»، هو إعادة تصنيف التحالف مع السعودية على أساس ما ستقدمه المملكة لواشنطن مستقبلاً بصفتها وكيلاً إقليمياً للأميركيين، وخصوصاً في ملف المشاركة العسكرية في سوريا، لا كمقابل لما دفعته الرياض سابقاً لإدارة ترامب.
ربما نجح ابن سلمان في زيارته المطولة إلى واشنطن في تهدئة روع ترامب لجهة قلقه من عدم دفع السعودية ما يكفي من الأموال، إضافة إلى تحسين نسبي لصورة المملكة، لكن هدفه الرئيس من وراء كل مجهوده لم يتحقق بعد، أي في جعل مملكته وكيلاً أميركياً معتمداً على المستوى الاستراتيجي. ولا فرق سواء كانت هذه النتيجة نابعة من عدم ثقة بالسعودية، أو من افتراق مصالح الطرفين بحكم الأمر الواقع، ما يجعل العلاقة بين البلدين «ورطة» سعودية تستنزف مقدرات المملكة، التي لا سبيل أمام أمرائها سوى الالتزام بمطالب ترامب.
وإن كان من المبكر توقع رفع مستوى التحالف السعودي مع واشنطن وفق تقديرات المصادر الأميركية، فإن المعضلة الرئيسة التي ستواجه السعودية في مقبل الأيام ليست في كون الركوب السعودي في القطار الأميركي لم يعد بالمجّان، كما كان يقول الرئيس السابق باراك أوباما، بل في أن الثمن المدفوع لـ«ركوب القطار» سيكون لغير الوجهة التي يريدها أمراء الرياض، أو على الأقل مقابل وجهة مجهولة!