إن أبرز ما عانته محافظة الرقة عند سقوطها في أيدي فصائل المعارضة المسلحة و«جبهة النصرة» هو سوء الإدارة وغياب خطط العمل والتنسيق، لذا لم تمضِ سوى أشهر حتى سرقت جميع مقدراتها واقتسمت الفصائل «الغنائم» في ما بينها، قبل أن تترك المحافظة لقمة سائغة لتنظيم «داعش». وظلّت المحافظة لسنوات خارج سيطرة الحكومة، وعانى أهلها ما عانوه على أيدي مختلف الفصائل، بدءاً بـ«الجيش الحر» وليس انتهاءً بـ«داعش». واستبشر بعضهم خيراً بعودة شطر المحافظة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات إلى سيطرة الحكومة السورية، بعد أربع سنوات من القهر والجوع والظلم والحرمان، إلا أنهم فوجئوا بأن شيئاً لم يتغيّر، بل ساءت الأمور أكثر على صعيد الخدمات.
لا مُصالحات
ساد عُرف في سوريا خلال الأزمة التي تشهدها البلاد منذ سبع سنوات، يقضي بأن كل منطقة تعود إلى سيطرة الحكومة تُجرى فيها «مُصالحات» وتسويات تضمن للناس العودة إلى حياتهم الطبيعية من دون أي خوف من انتقام أو شرّ مُبيّت، وتُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. إلا أن ذلك لم يحدث في مناطق سيطرة الحكومة في الرقة، على عكس المناطق التي سيطرت عليها «قوات سوريا الديموقراطية»، حيث ما انفكّت الأخيرة تطلق سراح عشرات الشبان من أبناء الرقة الذين كانوا يقاتلون ضمن صفوف «داعش»، وسوّت أوضاع الذين «لم تتلطّخ أيديهم بالدماء».
نزح سكان قرى ضفة الفرات اليمنى مع اقتراب الجيش السوري وقوات العشائر إلى الضفة اليسرى، حيث تسيطر «قسد»، وساقوا معهم قطعانهم ومواشيهم، واستقروا في تلك المناطق في بيوت مستأجرة في ريف الرقة. عاد كبار السن بعد أن بسط الجيش سيطرته، وبقي من لم يغادر إلى تركيا في مناطق «قسد» خشية من انتقام، ولم يجد الأهالي حتى اللحظة من يُطمئنهم أو يضمن لهم عودة بقية أفراد عوائلهم إلى بيوتهم آمنين. طالب أهالي الرقة بإحداث هيئة مصالحة وطنية «موثوقة»، إلا أن أحداً لم يستجب لمطلبهم، وما زالوا ينتظرون هذه الهيئة، ما يجعل الحياة في تلك المناطق مضطربة وغير مستقرة، حتى إن بعض الذين عادوا إلى منازلهم لتفقدها والاطمئنان على ما بقي فيها بعد ما تعرضت له من عمليات سرقة وتعفيش، تركوا مواشيهم في مناطق «قسد».

إدارة عن بُعد
أُعيد افتتاح دوائر ومؤسسات الرقة الرسمية في مدينة حماة لتسيير شؤون المدنيين، واستقر مسؤولو الرقة في العاصمة دمشق وبقية المحافظات الآمنة، واستأجروا بيوتاً باهظة الإيجار ليس بوسع أيّ نازح أن يستأجر مثلها، يصل إيجار بعضها إلى 100 ألف ليرة شهرياً (أي نحو ضعف راتبه). وظهرت على أغلب المسؤولين معالم الثراء، بينما يعيش النازحون الآخرون من موظفين ومعلمين فرّوا من «داعش» في مراكز إيواء استحدثتها الحكومة، أو في بيوت بسيطة تتناسب إيجاراتها مع رواتبهم ويعتمدون على مساعدات الهلال الأحمر السوري، ويعملون أوقات إضافية خارج الدوام الرسمي كي يتدبروا مصاريفهم.
اتّضح التخبّط الرسمي بعد دخول الجيش إلى ريف الرقة، واكتشف الأهالي بعد أشهر أن الحكومة لم تُعدّ خططاً مُسبقة لمرحلة ما بعد «داعش». يضطر مسؤولو الرقة إلى زيارة المناطق المحررة في محافظتهم بين فترة وأخرى، وتقتصر زياراتهم السريعة على تنشيط الحلقات والفرق الحزبية وإلقاء محاضرات عن «الإمبريالية» العالمية والحرب الناعمة، وتفقّد بعض المشاريع التي دخل فيها أغلبهم كشركاء ومستثمرين في الخفاء، من أفران خبز ومحطات محروقات. يزورون الرقة كغرباء عنها وليسوا منها ومسؤولين عنها أمام الحكومة التي عيّنتهم، ولا تعنيهم المحافظة وأهلها بشيء سوى أنها مصدر ثراء. يتذمر الأهالي من ذلك سراً ويخافون الإفصاح أو الاعتراض خشية الانتقام، والتهمة جاهزة لأي صوت مختلف: «داعشي» و«معارض». يُسيّر هؤلاء «المسؤولون» الحكوميون شؤون المحافظة المنكوبة عن بُعد، بينما تنتعش مناطق «قسد». الإدارة الفاعلة ودعم الاحتلال الأميركي للمناطق الأخرى من الرقة جعلا أغلب الأهالي يُفضّلون العيش في تلك المناطق.

مليارات على الورق
ظنَّ أغلب أهالي الرقة أن حقبة الفساد والمحسوبيات وبيع «الوطنيات» قد ولّت، وأنهم سيجدون أنفسهم أمام واقع جديد يختلف عمَّا ألفوه وعايشوه طيلة عقود، إلا أنَّ ظنونهم قد خابت. ففي بلدة دبسي عفنان، وهي أول بلدة دخلها الجيش السوري، طُلب من جميع الأهالي جمع التبرعات من أجل تجهيز بعض المراكز الأمنية، التي كانت الهدف الأول في خطط «إعادة الإعمار»، وحظيت بالاهتمام الأكبر بدلاً من المدارس والمراكز الصحية ومحطات المياه والكهرباء ومقاسم الهاتف.
أقيم منذ أيام مؤتمر فرع الرقة لحزب البعث في مدينة حماة بحضور عضوي قيادة قطرية، وفوجئ الحضور بأن مبلغ 300 مليون ليرة قد صُرف في بلدة الدبسي وحدها على مشاريع إعادة إعمار البنى التحتية، من دون أن يوضح أحد أين صُرفت، وما هي البنى التي أعيد إعمارها؟ في أوراق المصاريف المالية الحكومية تُشير الأرقام إلى مليارات الليرات التي أنفقت على مشاريع إعادة إعمار البنى التحتية في المناطق المُحررة، إلا أنه لا شيء على أرض الواقع، وجُلّ المال الذي يُصرف هو على الورق فقط، ولم يعرف الأهالي به إلا من خلال تقارير تلفزيونية على القنوات المحلية، تُشيد بالإعمار والمنجزات.

بلا مُحافظ
تولّى هاربون من الرقة شؤون المحافظة في مدينة حماة بعد سيطرة «داعش»، ووصل أغلبهم إلى مناصب لم يكونوا ليحلموا بها يوماً وليسوا أهلاً لها، وأعادت الحكومة إلى الواجهة مسؤولين سابقين كانت قد أعفتهم قبل سنوات بعد إدانتهم بتهم فساد مالي، ما شكّل صفعة لأهل المحافظة. ولا يزال العميد حسن جلالي محافظاً للرقة حسب المرسوم الرئاسي الذي صدر بتعيينه في عام 2012. ورغم اعتقاله من قبل «جبهة النصرة» في عام 2013 وعدم معرفة مصيره، لم يصدر أيّ مرسوم بتعيين محافظ جديد للمحافظة المنكوبة، فأوكلت الحكومة مهمة إدارتها إلى نائب رئيس المكتب التنفيذي، عبد خالد الحمود، وهو رئيس بلدية سابق كان قد أعفي من منصبه في عام 2002، بعد إدانته بقضايا فساد وبيع أراض تملكها الدولة في البلدية التي كان يديرها في ريف الرقة.
خيّب ذلك آمال أبناء الرقة ممّن توقعوا أن التغيير قادم على يد الحكومة السورية، وأنها ستولي الرقة اهتماماً مختلفاً بسبب ما عانته خلال السنوات، فوجدوا أنفسهم يقعون تحت نير الفساد مرّة أخرى؛ فليس المُحافظ بالوكالة وحده من أرباب السوابق، بل أغلب الذين تسلموا إدارات ومناصب في الحزب والمؤسسات الرسمية هم إما من أصحاب السوابق أو من أقارب المسؤولين الذين وزّعوا المناصب في ما بينهم وفق درجة القرابة والمصالح، بدءاً من مجلس المحافظة والمكتب التنفيذي وأعضاء مجلس الشعب، وليس انتهاءً بأمناء الشعب الحزبية والنقابات المهنية والمنظمات الشعبية. وفي المقابل، يعتمد الاحتلال الأميركي على أسماء ووجوه جديدة من أصحاب الكفاءات، فيما استبعدت أغلب الأسماء التي عُرفت بفسادها حين كانت الرقة تحت سيطرة الحكومة، ولاحقاً المعارضة.