الله يصطفل بأميركا، وحزبه سيصطفل بإسرائيل. لكن يبدو أنه ستقع على عاتقنا، نحن «الأهالي»، مسؤولية أن نصطفل بأطراف أخرى، بينها دول وجهات، تتنطّح لأدوار تفوق أحجامها.هذه هي الحال مع دول مثل بريطانيا وفرنسا والسعودية. ولا بأس هنا بالمرور على قطر. يا الله، قطر لا تزال تلعب بذيلها. لم تتعلم من تجارب السنوات الماضية، لا بل هي تريد المزيد، وها هو أميرها الباحث عن رضى أميركي عنها، ولو كلّف ذلك مخزون الغاز كله، يقول إنّه توافق مع دونالد ترامب على معاقبة بشار الأسد... يا عين!
لكن وجب التوقف عند ما تقوم به عاصمة، أعني باريس، حيث يرغب الفرنسيون دوماً البقاء في نادي الأعداء للشعب العربي، وحيث يخبرنا قادتها من السياسيين والعسكريين والاقتصاديين والنخب الاعلامية والثقافية أنهم يعشقون موقع الذيل إزاء أميركا، وأنهم لا يقدرون على النوم ليلة واحدة خارج القطار الأميركي، وأنهم لن يغفروا لأنفسهم إن لم تتلطّخ أيديهم بالمزيد من دماء أبناء هذه المنطقة. وكل ذلك باسم الانسانية، علماً بأن يقظتهم الانسانية تعمل بعين واحدة. فلا هم يرون ما تقوم به إسرائيل في فلسطين، ولا ما تقوم به السعودية في اليمن، ولا ما يقوم به الأميركيون في سوريا والعراق، ولا ما يقوم به جيشها في أفريقيا.
إلى من يتوجه المرء في مساءلة الفرنسيين؟ إلى رئيس مغرور يعتقد أنه مستعيد مجد الجمهورية؟ أم إلى حكومة تحوّل عناصرها إلى فرق سكرتاريا من المستوى الثالث؟ أم إلى جيش تحوّل إلى شرطة دهم داخل بلاده، وإلى مجموعة قتلة في الخارج؟ أم إلى نخب تدّعي حماية الحرية وتعدد الآراء، لكن يحصل أن لا نجد بينها صوتاً جدياً مخالفاً لسياسات الدولة المركزية؟ أم إلى أجهزة استخبارات لا تريد أن تتعلم من الدروس القاسية، وتبقى لاعباً مغموراً لا يقام له وزن في الأوقات الفعلية؟!
تمارس باريس سياسة الإنكار، تحرّض على سفك دماء السوريين وتعود ذيلاً لسياسة أميركا


يبدو أن الأمور متجهة إلى تصعيد كان يفترض أننا تجاوزناه منذ عقد من الزمن. ويبدو أن فرنسا قررت، طوعاً أو غصباً، العودة إلى بيت الطاعة الأميركي وإلى العمل لخدمة الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في العالم، ولإسرائيل والسعودية في منطقتنا. وما تقوم به فرنسا خلال اليومين الماضيين، يعيدنا إلى مرحلة عام 2005 حيث قررت التكفير عن ذنبها بمعارضة حرب العراق، بأن تولت تهيئة الأجواء لاغتيال رفيق الحريري في بيروت، ولشنّ العدو حرب تموز على لبنان، قبل الشروع في أكبر عملية تحريض انتهت إلى الفتنة في سوريا... بعدما لعبت دور القذر في ليبيا. وهذا يعني أن أي رهان على موقف فرنسي استثنائي من المسائل العالقة في منطقتنا هو رهان خاطئ. فلن تواجه فرنسا صفقة القرن التي ستطيح حق الشعب الفلسطيني، ولا تعارض الوجهة الأميركية بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران والشروع في حرب جديدة ضد طهران. ويبدو أن فرنسا تحجز لنفسها مقعداً في المعركة الأميركية – العالمية لمواجهة استعادة روسيا دوراً مركزياً في العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط.
قرار فرنسا المشاركة في عدوان عسكري على سوريا بذريعة أن الجيش السوري استخدم السلاح الكيميائي في معارك الغوطة الشرقية هو قرار لا يتصل بالحدث السوري المباشر. بل هو قرار بعودة فرنسا إلى الانضواء في الاستراتيجية الأميركية التي تركّز على منع قيام الدولة السورية من جديد، وعلى إبقاء النار مشتعلة في كل الجسد العربي لتغطية محاولة جديدة لشطب القضية الفلسطينية. وهو قرار يقول لنا، نحن أبناء بلاد الشام، إن فرنسا تحنّ إلى زمن الاستعمار والانتداب، وإنها تريد خوض معركة الدفاع عن سايكس – بيكو، وإنها تُنصِّب نفسها حَكَماً إنسانياً وأخلاقياً يقرر مصيرنا.
ولكن، بأي عناصر قوة تقوم بذلك؟
لا حاجة إلى شروحات تتصل بالطابع الاستراتيجي لقوة النار الفرنسية. فهي لم تعد تمثل شيئاً في المشهد العسكري العالمي. فرنسا اليوم مثل الفتى الأزعر والجبان، الذي لا يقدر على المواجهة لوحده. يتفنّن في التحريض حتى يقع الصدام. عندها يسير خلف الرجل الضخم إلى المواجهة، ومتى تقع، يبتعد قليلاًَ منتظراً النتيجة. فإذا وقع الخصم أرضاً، يقفز مثل قرد ليسرق صفعة أو ركلة في جسد المطروح أرضاً. لكن ما إن يقف الأخير على قدميه حتى يكون هو أول الهاربين. وغالباً ما لا يحالفه الحظ، فيظل يبكي في مكانه، مبلّلاً سرواله وصارخاً طالباً النجدة.
اليوم، ترفض فرنسا المراجعة والاعتراف بفشل خياراتها في المنطقة، ولا سيما في سوريا. وتمارس سياسة الإنكار إزاء ما حصدته بعد سنوات طويلة من الضرب في الجسد السوري. ومع أنها لم تعد تحترم أيّاً من المعارضين السوريين الذين جنّدتهم واستخدمتهم طوال السنوات الماضية، فهي صارت مثلهم، تأمل أعمالاً انتقامية تضرب أكثر في الجسد السوري. فرنسا تلعب بمكر فقط، لكونها لا تريد الإقرار بالفشل في محاولة قلب نظام الحكم في سوريا، بعد فشل إعادة السيطرة على لبنان، وبعد الفشل في احتلال موقع متقدم في العراق أو شمالي أفريقيا.
ماذا يفعل الفرنسيون؟ هل يعرفون أي حماقة يرتكبون؟ وهل يحتاجون إلى من يُنعش ذاكرتهم حتى تستعاد صور أشلاء الجنود والمقار المدمرة؟ أم انهم لا يأبهون لشيء...؟ علّهم يتذكرون، ويتفكرون في أن غضب «الأهالي» عندنا بات له طعم مختلف!