لم يخرج اليوم الثالث والأخير من زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لفرنسا عن دائرة المُتوقّع، سواء لناحية عدد الاتفاقات المبرمة بين الجانبين وحجمها، أو لناحية المواقف السياسية التي راوحت في إطار ما دأب الطرفان على ترداده خلال الآونة الأخيرة. حتى إلى ما قبل اللقاء الثاني الذي جمع ابن سلمان بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء أمس، في الإليزيه (بعد لقائهما الأول في متحف اللوفر)، ظلّت البرودة مسيطرة على فعاليات الزيارة التي «وُضعت تحت عنوان الزيارة الدبلوماسية والثقافية، وتضمنت القليل من الاقتصاد». انشغال الأمير الشاب بما سمّاه مصدر قريب من الحكومة السعودية «مفاوضات صعبة»، متركزة على الملف الإيراني على ما يبدو، أدى إلى «تغييرات كثيرة في جدول أعماله». لكن تلك المفاوضات لم تسفر على الأرجح عن إقناع الفرنسيين بوجهة نظر ابن سلمان، الذي لا يفتأ يكرّر رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاتفاق النووي.هذا ما أوحت به تصريحات ماكرون في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع ابن سلمان مساء الثلاثاء، إذ أقرّ بوجود خلافات في وجهات النظر مع الرياض بشأن «الخطة المشتركة الشاملة»، لكنه أشار إلى «(أننا) نشترك مع السعودية في ضرورة التصدي لتوسع إيران في المنطقة»، مؤكداً «(أننا) لن نسمح بأي نشاط باليستي في اليمن يهدد أمن السعودية واستقرارها وسلامة شعبها». مواقف تتّسق مع المحددات التي تبني باريس على أساسها مشروعاً بديلاً من تمزيق الاتفاق النووي، قوامه فرض عقوبات على إيران في ما يتصل ببرنامجها للصواريخ الباليستية. من جهته، خصّص ولي العهد السعودي الجزء الأكبر من كلمته لمهاجمة إيران، متهماً طهران بأنها «لم تستثمر الأموال لازدهار الشعب، بل لنشر الأيديولوجيا»، متابعاً «(أننا) لا نريد تكرار اتفاق حدث عام 1938 وتسبب بحرب عالمية ثانية» في إشارة إلى وثيقة فيينا.
ودافع ابن سلمان عن عمليات «التحالف» الذي تقوده بلاده في اليمن، مدّعياً أن الأخير «يبذل قصارى جهده لتفادي سقوط خسائر بين المدنيين، لكن الأخطاء تحدث في الصراعات»، في حين أعلن ماكرون أنه اتفق مع ولي العهد السعودي على «تنظيم مؤتمر إنساني بشأن اليمن في باريس بحلول الصيف». إعلان يبدو واضحاً أنه يستهدف امتصاص النقمة المتزايدة على السعودية، ومن ورائها الدول الغربية التي تواصل تزويدها بالسلاح، بفعل الجرائم المتواصلة في اليمن. وهذا ما كان قد سبق إليه أيضاً المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، بنجامان غريفو، عندما دافع، أمس، عن الصفقات التسليحية للرياض بقوله إنها تصبّ في «مصلحة الصناعة الفرنسية»، واصفاً السعودية بأنها «شريك تجاري مهم لفرنسا». إلا أن غريفو أكد في المقابل أن «لا شيء يمنعنا لدى استقبالنا شخصيات أجنبية بارزة من إجراء محادثات معها تتناول مواضيع مختلفة، سواء حول حقوق الإنسان أو غيرها».
تم توقيع 19 اتفاقاً اقتصادياً بقيمة 18 مليار دولار


وفي الاتجاه نفسه جاء التريّث الفرنسي في إبرام عقود في مجال الدفاع مع السعودية، وإن كان غياب اتفاقيات «استراتيجية» من النوع المشار إليه مرتبطاً كذلك بتحفّظ الرياض على منح الفرنسيين ما أسدته إلى الأميركيين والبريطانيين. بعدما ذكرت وكالة الأنباء السعودية الرسمية، ليل الإثنين - الثلاثاء، أن اجتماع ابن سلمان بوزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي أعقبه «التوقيع على عدد من المذكرات واتفاقيات التعاون في المجال الدفاعي» من دون إيضاح عددها أو ماهيتها، أوردت صحيفة «La Tribune» الفرنسية، أمس، في تقرير لها بشأن الزيارة، أن باريس لم ترغب في التوقيع على عقود تسليح مع الجانب السعودي. ولفتت إلى أن مُصَنِّعي الأسلحة الفرنسيين سيضطرون إلى الانتظار حتى نهاية العام الجاري، الموعد المفترض لتوقيع عقود فرنسية ــ سعودية جديدة خلال زيارة مقررة لماكرون للمملكة. تأخير يشي، مقارنة بالاندفاع السعودي تجاه بريطانيا والولايات المتحدة وحتى إسبانيا (التي سيزورها ولي العهد في وقت لاحق من الأسبوع الجاري، ليوقّع عقداً تسليحياً ضخماً بقيمة 3 مليارات يورو)، بأن العلاقات بين باريس والرياض لا يزال يشوبها توتر وجفاء، وهو ما تجلى في نتائج الزيارة التي جاءت محدودة ومتواضعة، في ظل انتقادات وجهتها وسائل الإعلام الفرنسية لابن سلمان، خلافاً لنظيرتها الأميركية التي ذهبت بعيداً في تلميع صورته.
في هذا الإطار، بدا لافتاً أن الصحف الفرنسية لم تتوانَ عن مهاجمة الأمير الشاب، ووصفه بصاحب «الحسابات القصيرة النظر»، على حدّ تعبير «Le Monde»، والتحذير من أن «الرهان عليه محفوف بالمخاطر» بحسب ما نبهت إليه «Les Echos»، في حين رأت «Le Figaro» أن ولي العهد السعودي «جاء إلى باريس خالي الوفاض» في زيارة «بعيدة من الأضواء والبهرجة والاستعراض». كلها قراءات تتحدث عن مزاج عام غير معجب بـ«الأمير ذي الوجهين» وفق توصيف «Le Monde»، ومحاذرٍ الانجرار إلى المصادقة على سياساته.
حذر بيّنته نوعية العقود «القليلة العدد» التي تم إبرامها بين الجانبين، والتي جاءت في معظمها في صورة «رسائل نوايا»، متركّزة ــ بحسب وسائل إعلام فرنسية ــ على «اتفاقات دولية غير ملزمة»، وبذلك تكون نتائج زيارة ابن سلمان «أقلّ من الطموحات الفرنسية، ودون مستوى العقود الموقّعة مع البريطانيين والأميركيين». وبلغ عدد «رسائل النوايا» الاقتصادية الموقّعة بين الجانبين السعودي والفرنسي 19 بروتوكول اتفاق بقيمة إجمالية تزيد على 18 مليار دولار، وفق ما ذكرته وكالة «فرانس برس». ومن أبرز تلك الاتفاقات اتفاق بين شركة «أرامكو» النفطية السعودية وشركة «توتال» الفرنسية بقيمة خمسة مليارات دولار، ينصّ على أن تقوم الأخيرة ببناء مجمع عملاق للبتروكيماويات في مصفاة ساتورب في الجبيل.