على الرغم من انتهاء إضراب «كنابست» (المجلس الوطنيّ المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع الثلاثيّ الأطوار للتربية)، وهو أحد أكثر المجالس النقابيّة تمثيلاً في الجزائر، بعدما تمكّن من شلّ عمل المدارس الثانويّة في محافظتي البليدة وبجاية قبل ثلاثة أشهر تقريباً، فإنّ الحكومة، ولمواجهة الإضرابات المنتظمة التي تطال قطاعات حسّاسة كالتعليم والصحة، تعتزم تحصين نفسها من الخطر الدائم لقيام الاحتجاجات عبر مهاجمة التعدديّة النقابيّة من خلال مجموعة من المقترحات التي لا تزال قيد الإعداد.العديد من المراقبين يرون أنّ الحكومة، من خلال اللجوء إلى قانون 1990 الذي يلزم النقابات بإثبات حجمها التمثيليّ (لهدف غير معلن وهو الطعن في شرعيّة أيّ إضراب تبدأه نقابة مصنفة بأنّها غير تمثيليّة)، تهدم أسس التعدديّة النقابيّة التي ظهرت في أعقاب الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أواخر الثمانينيات. وإذا كانت «حكومة الإصلاحات»، وفي سياق المواجهات الحادة التي بلغت ذروتها خلال انتفاضة تشرين الأوّل/ أكتوبر 1988، قد اضطرت إلى الانخراط في «انفتاح ديمقراطيّ» والاعتراف بالتعدديّة النقابيّة ما أدى إلى ازدهار نقابات مستقلة زعزعت احتكار «الاتحاد العام للعمال الجزائريين» و«فيدراليّة عمال التعليم والثقافة» التابعين لجهاز دولة «جبهة التحرير الوطنيّ»، فإنّها لم تتنبّأ بالعوائق القانونيّة المترتّبة على تشكيل حركة عمالية طبقيّة خارجة عن سيطرة نظام اتخذ منحى ليبراليّاً إلى درجة اعتماد برامج الإصلاح الهيكليّ في عامي 1994 و1997.
تنصّ المادة 35 من القانون 90 ــ 14 على اعتبار النقابة تمثيليّة إذا بلغت نسبة أعضائها 20 في المئة من العمّال. ورغم تجاهلها لفترة طويلة، جرى إحياء المادة مجدداً لإجبار النقابات على إصدار قوائم شاملة ومفصّلة لأعضائها قبل 31 آذار/مارس. ورداً على سؤال من «الأخبار» حول غياب أي ردّ فعل من قبل اللجنة النقابيّة المشتركة التي تُنسِّقُ أعمال النقابات المستقلة، أجاب الأمين العام لـ«مجلس المدارس الثانوية الجزائرية»، إيدير عاشور، بأنّهم غير معنيين كثيراً بالتصريحات الإعلامية للحكومة، وإزاء هذا الإجراء الملتوي، يجب اللجوء إلى بناء توازن قوى. «لا يُطلب مثل هذا المعدل التمثيليّ المرتفع إلا في الجزائر. وإذا أجرينا دراسة مقارنة مع جيراننا، المغرب أو تونس مثلاً، فإنّ المعدل لا يتجاوز هناك 10 في المئة، وفي بقيّة البلدان يكون التمثيل المطلوب بين خمسة وعشرة في المئة فقط»، يوضح عاشور، مضيفاً: «نحن في مجلس المدارس الثانوية الجزائرية نؤمن بمنطق توازن القوى والحركة الاجتماعية لفرض أنفسنا، وليس تطبيق قوانين قائمة وقابلة للتغيير بأي ذريعة».
النقابي عاشور لـ«الأخبار»: نؤمن بمنطق توازن القوى لفرض أنفسنا


وفي سياق الإضراب المفتوح الذي أطلقه «كنابست» من تشرين الثاني/نوفمبر إلى شباط/فبراير الماضي، وأمام إجراءات الإيقاف عن العمل التي اتُّخذت بحق بعض المعلمين ممن التزموا بهذا الإضراب الذي اعتبره القضاء الجزائريّ غير قانونيّ، أظهر «مجلس المدارس الثانوية الجزائرية» تضامناً مع منافسه المُهيمن داخل قطاع التعليم، وذلك رغم أنّه لا يشترك معه في المطالب.
دينامية «المجموعة» و«التضامن النقابي» صبّت في مصلحة حماية الحريّات النقابيّة والحقّ في الإضراب، على الرغم من أنّ الإجراء الذي اتخذه «كنابست» من جانب واحد ولأسباب داخلية تخصّ هذا الاتحاد أضرّ، كما يقول إيدير عاشور، بـ«تحركات اجتماعية أخرى تقودها الاتحادات المستقلة في عدة قطاعات، وتتبنّى مطالب تتعلق بالبيئة الاجتماعية والمهنية وتُعارض الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة منذ سنوات في ما يتعلّق بالقوة الشرائية، ومعاشات التقاعد، والأجور، والحريات النقابية».
لقد تعرض الإضراب بالفعل لانتقادات شديدة من قبل قطاعات كبيرة من الرأي العام الجزائري، إذ تُتهم هذه النقابة بأنّها تتستّر بالنضال لتحقيق «مصالح خاصة»، أي تصفية حسابات مع السلطات المحليّة ودفع الرواتب المتأخرة. بالنسبة إلى المعلّقين، لم تُمثِّل الحاجة الملحّة لتقديم الحلول لأزمة مشاكل التعليم، وتحديداً تدهور ظروف عمل المعلمين، وتدني أجورهم، والنقص في الموارد المادية وتراجع الجودة التعليمية، وغير ذلك، الدافع وراء هذه الخطوة. وقد غذّى هذا الإضراب المرتجل وإيقافه المفاجئ، بعد تدخل مسؤولين رفيعي المستوى، الشكوك في وجود علاقات وثيقة بين هذا المجلس الذي يجمع فروعاً متعددة، والحكومة.
وعلى الرغم من السعي لاكتساب مكانة وطنيّة وتعزيز الشرعيّة الرمزيّة، فإنّ الحركات النقابيّة المستقلة تناضل من أجل خلق تحرّك فعال يحظى بمشاركة كبيرة، فيما يتزايد التوتّر بين الأوساط الشعبيّة والمعلمين النقابيّين المتهمين بالدفاع عن مصالحهم الخاصة بدلاً من المصالح العامّة. استخدام بعض النقابات للإضراب على نحو مستمر كسلاح للدفاع عن مصالحها المهنيّة، واستغلال الدولة لبعض النقابات في قطاع التعليم، والتداعيات الكارثيّة للإضرابات الدورية على جودة التعليم، كلها عوامل تضع النقابات والمدرسين في أزمة تجاه أهالي الطلاب والعائلات التي تتهمهم باتخاذ الطلاب كرهائن.
لكن بالنسبة إلى إيدير عاشور، لا ينبغي أن نخطئ تقدير «العدوّ»، وألّا تخدعنا الخطابات؛ فالنقابات شريك اجتماعيّ يدافع عن الحقّ في التعليم وفي الطبابة المجانية والجيّدة. «في الأساس، وضعت السلطات العامة هذين القطاعين ضمن ظروف اجتماعية وتشغيلية تجعلنا نعتقد أننا نتجه نحو الخصخصة. ومن خلال السماح بالإضرابات وجعل الوضع يسوء، نرى أنّ الهدف غير المعلن هو السعي لجعل الرأي العام يطالب بالخصخصة. هناك سعي لوضع حدّ لتمويل هذين القطاعين مع كسب دعم الرأي العام»، يقول عاشور. ومع ذلك، لا يقدم هذا التحليل تفسيراً مقنعاً لغياب التآزر بين القادة النقابيين والمدرّسين المنتمين إلى النقابات الذين يقع النقد عليهم في المقام الأوّل، لكونهم يحصرون أنفسهم ضمن استراتيجية إعلامية ويفتقدون التواصل الداخلي والنقاش بين النقابات والتفكير الجماعيّ مع المعلمين.