حول عبارة: «هنا يقيم الجبلاوي»، تدور رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» الصادرة نهاية خمسينيات القرن الماضي، هذا الرجل، الذي سيتحوّل «إلى لغز من الألغاز... ويُضرَبُ المثل بطول عمره»، أقام داره الواسعة في خلاء صحراء المقطم قبل أن يعتزل ويطرد اثنين من أبنائه سيُقيمان لاحقاً حارةً باسمه خارج سور بيته: «باسمه سُمِّيت حارتنا، هو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء».حول هذا البيت الكبير، امتدت الحارة وعمُرت، وفيها تكاثرت ذريّة الجبلاوي وازدهرت، وفيها أيضاً ذلت وانقسمت واضطهَدَ أفرادها بعضهم بعضاً: «لم تعرف حارةٌ حدّة الخصام كما عرفناها، ولا فرّق بين أبنائها النزاع كما فرّق بيننا، ونظير كلّ ساعٍ إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوّحون بالنبابيت ويدعون إلى القتال، حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل... ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول في حزن وحسرة، هنا يقيم الجبلاوي، صاحب الأوقاف، وهو الجد ونحن الأحفاد»... هكذا، كانت الأسطورة المؤسسة (الجبلاوي) تتثبت مع مرور السنين في الرواية، فيما يبقى الحلم واحداً: العودة إلى ذلك البيت، إلى الفردوس المفقود، واستعادة حقوق الأبناء والأحفاد من «وقف الجبلاوي» الذي استولى عليه «مسؤول الوقف وفتوّاته».

«أقدم جيش عرفه التاريخ»

يُعدُّ الجيش المصري أكثر الأجهزة ذات الخطاب الأيديولوجي الواضح، نظراً إلى ما يختزنه من تصوّرات للعالم ورؤى لدوره. كمثال على ذلك، قال يوماً اللواء أركان حرب رئيس هيئة البحوث العسكرية شريف فهمي بشارة، إنّ «الجيش المصري يستمدّ قيمه وتقاليده من حضارته الراسخة، التي تضرب بجذورها في أعمال التاريخ... هو أقدم جيش عرفه التاريخ منذ أيام الفراعنة، وقد دافع عن الجزيرة العربية، وردّ هجوم الصليبيين والتتار». هذا التصريح الذي جاء في «احتفالية مرور مئة وعامين على مشاركة الجيش في الحرب العالمية الأولى»، سبق للمؤرّخ المصري خالد فهمي، أن أبرزه في مقالة نقدية بعنوان «الاحتفال باللاشيء».


ماذا لو كانت هذه الحارة هي مصر نفسها؟ السؤال لا يُطرح هنا لاختزال الإجابة عنه بما قاله سابقاً أستاذ العلوم السياسية المصري مأمون فندي، عن أنّ «الجبلاوي في أولاد حارتنا هو عبد الناصر، والرواية كلها حول الحكم بالخرافة». فبقدر غرابة هذا السؤال، فإنّ رمزيته ضرورية لمقاربة النظام السياسي القائم في مصر حالياً، الذي تصل الأمور برئيسه عبد الفتاح السيسي إلى تجاوز محاولات استئثاره بالسلطة، نحو إماتة «علاقات القوّة» في المجتمع، أي ما يجعل المواطنين، أكانوا أفراداً أم جماعات، خارج المجال السياسي. وتصل به الأمور أيضاً إلى منع إقامة «علاقة قوّة» حتى مع مؤيديه: «لم يقم السيسي ببناء جهاز سياسي خاص به، سواء أكان تنظيمياً كالاتحاد الاشتراكي، أو حزباً حاكماً كالحزب الوطني. بل على العكس من ذلك، فالشباب، وبالأخص الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا المدينية، هم مصدر تهديد حقيقي له، حيث مثلوا خزان الثورة البشري الرئيسي. وليس ثمة أي أفق للدمج. ويعتمد السيسي في تعامله معهم على الأجهزة الأمنية، وبالأخص المخابرات العسكرية والملاحقات البوليسية، بالإضافة إلى حالة عامة من السيولة تستدعي بعض الجماهير الشابة لملء مؤتمراته الشبابية»، كما يقول الباحث المصري في علم الاجتماع السياسي علي الرجّال، في مقالة نشرها عام 2017.
من خصائص رواية «أولاد حارتنا» أنّها تدور حول «سيّد» أو «ملك» معروف، هو الجبلاوي، وضع شروطاً لحارته، وحلماً أقصى لأبنائه وأحفاده (أي استعادة الحق في الوقف)، وهي تُروى بلسان أصحاب الحق هؤلاء، أو بالأحرى بلسان الواقع المعيش من الأسفل. لكن إذا عكسنا خصائص هذه الرواية على الواقع المصري الحالي، تجدر الإشارة إلى أن السيسي ليس «السيّد» صاحب القرار، لكن بوصفه رئيساً يُعدُّ الوجه البارز لهذه الدولة العميقة القائمة في مصر، وهذه الدولة هي الجبلاوي نفسه. أمّا أولاد الحارة، فهم يعيشون حيث قامت «الدولة العميقة» على «زرع وإنتاج آثارها الواقعية» (وفق مقاربة المفكّر الفرنسي ميشال فوكو للسلطة).
وعن الدولة العميقة، «فعلى امتداد ما يقرب من قرنين من الزمن، تشكلت في مصر دولة بوليسية كبيرة وعميقة ولديها وعي بنفسها... ولذلك فالداخلية هي فعلاً سيّد البلد وليس الجيش»، كما يقول الرجّال. وليس لهذه الدولة «آلة قمعية» فحسب، بل لها أيضاً «أجهزتها الأيديولوجية» (راجع كادر الجيش المصري).
السيسي نفسه سبق له أن قال في حوار أجرته معه صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في زيارته الأخيرة لباريس: «لمصر مؤسسات قديمة وقوية... دولتنا متينة، وقادرة على اجتياز ثورات تُعبِّر عن إرادة الشعب السيّد».

«حرب في ظلّ السلم»
إذا كانت «الدولة العميقة» تعود عقوداً إلى الوراء، وإلى ما يسبق بكثير «دولة يوليو ــ 1952»، فثمّة من يرى أنّ «الذي يحكم مصر منذ عام 1952، هو أجهزة الأمن: المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية، والشرطة. هذه الأجهزة لا تسيطر على الأمن فحسب، بل على كل السياسات الحكومية»، يقول الدبلوماسي السابق عز الدين شكري فيشر. لكنّ اللافت في عهد السيسي (2014 ــ 2018) هو أنّ علاقة أجهزة دولة المصرية في ما بينها (أمنية وعسكرية ودبلوماسية) كانت أقرب إلى «علاقة حرب في ظلّ السلم»، في إشارة مثلاً إلى الصراعات بين جهازي المخابرات، وبين المخابرات بصفة عامة والجهاز الدبلوماسي في عدد من الملفات. وبتعبير أدق: في عهد السيسي كانت الحرب بين هذه الأجهزة «محرّك المؤسسات والنظام» (أيضاً وفق مصطلحات فوكو).
هذه الصراعات ساعدت السيسي في عملية «إلغاء الحروب» داخل جسد الدولة (المخابرات العامة صارت منذ مدة قليلة تحت سيطرته المباشرة)، بمعنى أنّها ساعدته على تسيُّد المشهد، ليصبح بعد أربعة أعوام ممسكاً كما يبدو بمفاصل الدولة العميقة. تزامناً، طوّر في الوقت نفسه أمام الرأي العام الذي كان يُخضَع منذ صيف 2013، صورة أنّه رجل الأيام الحالية والآتية، وهذا ما يتأكد عند سماع خطاباته.
المعركة في مصر بالنسبة إلى الذين خرجوا في «يناير 2011» تكمن في مواجهة هذا «السيّد» الذي يواصل تجميع أدوات حكمه. وبعبارة أجمل: هي تكمن في «قتل الملك» (رمزياً)، بعبارة فوكو الذي يستعيدها علي الرجّال أيضاً.

«مجتمع معياري»؟
لعلّ الأخطر من ذلك أنّ السيسي في صراعه مع «الإخوان المسلمون» ذهب بعيداً جداً. وليس من باب الدفاع عن «الإخوان»، لكن السيسي يكاد يتجه بمصر نحو إقامة ما يسميه ميشال فوكو «مجتمعاً معيارياً»، حيث ينشئ «الحق» في الإماتة والقتل، وحيث «نجد، بطريقة معينة، نوعاً من التعميم البيولوجي لموضوع العدو السياسي»، مع الإشارة إلى أنّ المقارنة قد لا تصحّ هنا، لأنّ فوكو كان يتحدث هنا عن «صراع الأعراق»، وعن صورتها الأكثر تجلياً في ظلّ «النازية». وهذا بعيد عن الحالة المصرية، لكن فيه ما يلزم من جمالية الوصف لذكره، وفيه ما يلزم لإلقاء الضوء على واقع أنّ عهد السيسي غيّر تعريف السجن (يكفي الاطلاع على الأرقام وعلى مسألة السجن الاحتياطي).
نقطة أخرى من عهد السيسي لا بدّ من الإشارة إليها، هي أنّ إحدى أدوات «هيمنة» الرجل على المجتمع كانت في كمية القوانين المعرقلة للحياة السياسية التي استصدرها. وهذا ما سبق لزميل صحافي أن لفت إليه في مقالة بعنوان «ماهينور تُحبس مجدداً: دوّامات القاهرة تزداد وحشةً»، في إشارة إلى الدوامات القانونية (لفوكو عبارة تقول: تحت صيغة القانون، يكمن ضجيج الحرب). هذه المقالة تستعيد أيضاً عبثية الروائي فرانز كافكا الذي له جملة قد تنطبق على الواقع المعيش في مصر راهناً: «نحن الآن كمثل مسافرين على سكة حديد، عالقين في نفق طويل بفعل حادث عند نقطة لا نرى فيها ضوء البداية، فيما الضوء الآتي من النهاية ضئيل إلى درجة أنّه يجب البحث عنه دائماً، ودائماً نضيّعه. في الأثناء، فإنّ النهاية والبداية ليستا أكيدتين».

لا يبدو أنّ ثمة مفرّاً أمام تجمّد الدم في عروق السياسة المصرية


لا يبدو أنّ ثمة مفرّاً أمام «تجمّد الدم في عروق السياسة» المصرية، في عهد السيسي، حيث تتعزز «الدولة الأمنية التي تقوم على الخوف، وتحاول بأي ثمن، الحفاظ عليه، لأنّها تستمد منه وظيفتها الأساسية وشرعيتها». هكذا يُعرّف المفكّر الإيطالي جيورجيو أغامبن «الدولة الأمنية». لكن «المجتمع في حاجة لخلق تجربة لمقاومة هذا الوضع... لو إنت فضلت (بقيت) مش بتقاوم، ده هيفضل هو مسيطر»، كما يعتبر الحقوقي والسياسي خالد علي، في مقابلة أخيرة. لكن مسكينة المعارضة المصرية. قد يصحّ فيها ما قاله الشاعر (العامي) مصطفى إبراهيم في «المانيفستو» الصادر في «مصر ما بعد 2011». يقول:
«أنا أحسن واحد يقنعك تحكي...
وما بيحكيش...
وأحسن واحد يقنعك تبكي...
وما بيبكيش...
أنا أحسن واحد يقنعك تفرح...
وأحسن واحد يقنعك تجرح...
أنا أحسن واحد ميت...
يقدر يقنعك... تعيش».

عودة (أخيرة) إلى «حارتنا»
هذه الرواية التي بُنيت عليها المقاربة، كانت قد أثارت الكثير من الجدل، بخاصة عقب الصعود المطّرد للتيّار الإسلامي في العالم العربي منذ السبعينيات، إذ كان البعض يتّهم الروائي المصري بأنّه كتب عن الله. لكن بخلاف هذا الجدل، فإنّ الشخصية ــ الأسطورة (الجبلاوي)، تصلح أكثر من غيرها لأزمنتنا السياسية المعجونة بأساطيرها... التي يبدو أنّ «قتلها، أسهل من رؤيتها»، وهذا ما يقوله محفوظ في نهاية الرواية عن الجبلاوي نفسه.