«كنت أنتظر هديتي أن يأتي إلى حضني في إجازة»
يتوزع الوافدون من الغوطة الشرقية على مراكز إيواء عديدة، منها مراكز مُحدثة في الدوير وحرجلّة وغيرها. هناك احتضنت بعض النساء أبناءهن الجنود في الجيش، بعد حصار دام سنوات، قبل أن يتمكَنّ أخيراً من الخروج إلى فسحة الدولة السورية. مشهد يجسّد تعقيد الواقع الاجتماعي اليوم. تفقد أم اسماعيل، المرأة الستينية، قدرتها على الوقوف بعد بكائها المتواصل، متأثرة بعناق ابنها المقاتل في الجيش على جبهة حرستا. لم تتوقع المرأة أن ترى ابنها مجدداً، ولا سيما قبل أيام من عيد الأم. تعتبر المرأة أنها أجمل هدية لها من البلاد، راثية لحال أمهات ثكالى، يمر عليهن هذا العيد بالفجائع. تضحك أخيراً، وتقول: «كنا ممنوعين في الداخل من الاحتفال بعيد الأم. كانوا يقولون لنا أن لا نحتفل بأعياد الغرب والنصارى لأنها تقليد للكفار. والمضحك أن البعض من المدنيين ظنوا أن عيد الأم هو عيد ديني يتعلق بالمسيحيين فقط». تحن الأم إلى هدايا أبنائها، يوم كانوا يقتطعون من مصروفهم لشراء شال أو غطاء للرأس، أو «كولون» شفاف في أسوأ الأحوال، وتترك العنان لضحكتها. وتعود لتقول مازحة: «اشتقت للاحتفال الديني بـ(العيد النصراني) الذي كان يخصني». كلام المرأة يعطي أسباباً لحالة من اللامبالاة، تلاحظ عند الأطفال الخارجين حديثاً من جحيم الغوطة، تجاه يوم الأم، إذ إن اليوم لا يعني شيئاً لمعظم الأمهات، ولم يسمع به معظم الأطفال.
ومن زاوية أُخرى، لم تكن اللقطات المعروضة على إحدى الشاشات الرسمية السورية لجندي سوري يخاطب امرأة عجوزاً خارجة من الغوطة، بالقول: «أنت أمي»، خارج سياق المناسبة الحزينة التي تمر على البلاد مع المزيد من الموت. يقول الجندي للمرأة التي تغطي رأسها وجزءاً من وجهها بحرص شديد: «أعايدك في عيد الأم، لأني لن أتمكن من رؤية أمي». ثم يمد يده إلى جيبه ويتناول ورقة نقدية، فيمد يده بها إلى المرأة، معتبراً أنها هديتها في عيد الأم. وبين منتقد للمشهد المعروض أمام الشاشات، بصفته يناسب التسويق للدولة، بما يناسبها، كونها الأم التي تستوعب الجميع، وبين متأثر بنبرة الصدق في صوت الشاب البسيط، تظهر مأساة أعداد كبيرة من الشبان وأمهاتهم، ممن فقدوا الإحساس بالعائلة والطمأنينة. ومع وصول جثامين شهداء جدد إلى الساحل، جراء كمين قضى خلاله عدد من جنود الجيش في حي القدم الدمشقي، سادت خيم العزاء بيوتاً عدة. إحدى الأمهات صرخت ناعية ابنها خلال مجلس عزائه قائلة: «كنت أنتظر هديتي أن يأتي إلى حضني في إجازة. كان حنوناً دافئاً طيباً. أضحى اليوم بارداً لامبالياً. قد كان هدية لأمه الأرض. لم أعد أمّاً بعد الآن». هكذا تعلن المرأة المسكينة التي خسرت اثنين من أبنائها في اجتياح المسلحين قرى ريف اللاذقية قبل سنوات، إضافة إلى استشهاد ابنتها مع عائلتها في عدرا العمالية، وصولاً إلى شهيدها الأخير، الذي رفض التسريح بعد استشهاد إخوته جميعاً. إعلان قاسٍ؛ ولا شك أن تعلن الأم السورية أنها لم تعد أمّاً بعدما قدمت كل أبنائها قرابين لهذه الأرض.