تونس ــ الأخبارتعرّض مقر «كتيبة شهداء سبها»، أمس، لهجوم قادته مجموعة مسلحة، فيما أدت المواجهات إلى انتقال المعارك نحو أحياء المدينة، ما نتج منه سقوط ثلاثة قتلى بينهم طفلة أُصيبت بشظايا قذيفة، وإصابة عشرين عسكريّاً ومدنيّاً، بحسب ما أفاد به «مركز سبها الطبيّ».

تأتي التطورات هذه بعد يومين من إعلان المشير خليفة حفتر، الزعيم العسكريّ الذي يتخذ من سلطات البلاد الشرقيّة مظلةً شرعيةً له، انطلاق «عمليّات فرض القانون في الجنوب الليبيّ». وقد عرض «مكتب الإعلام» التابع له، أمس، شريط فيديو يُظهر مشاهد لطلعات جويّة من قاعدة براك الشاطئ الجويّة في سبها، مرفقة ببيان جاء فيه أنّ غرفة العمليات «ستتعامل بالذخيرة الحيّة... مع أيّ هدف يشكّل تهديداً لليبيا وأمنها وسلامة أراضيها».
إلى جانب ذلك، عقدت قوات حفتر، أول من أمس، لقاءات مع أعيان من قبائل الجنوب، يقول بيان أعقبها إنّها توصلت إلى اتفاق يقضي بـ«الوقف الفوريّ لإطلاق النار وترك الخلافات ورفع الغطاء الاجتماعيّ عن أيّ أجسام قبليّة تحتكم للسلاح». ومن جهة «سلطات الغرب»، استقبل رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، في طرابلس، «أعياناً من سبها»، واجتمع مع آمر «اللواء السادس» المتمركز في المدينة لتدارس سبل «الدعم لحماية وتأمين المنطقة الجنوبيّة».
وتشير الأخبار الآتية من المدينة إلى أنّ الاشتباكات قائمة بين قبيلة «التبّو» التي تنتشر بين ليبيا والتشاد والنيجر والسودان، وقبيلة «أولاد سليمان» العربيّة التي تُعتبر إحدى أكبر قبائل الجنوب الليبيّ. ويرى بعض الفاعلين أنّ سبب الصراع ليس مجرد خلافات قبليّة، بل يأتي كنتيجة توافد عدد كبير من النازحين من الدول المجاورة، ما أدى إلى وقوع نوع من التحوّل الديموغرافيّ في تركيبة السكان، وهو رأي سبق أن تبنّاه عميد بلديّة سبها حامد الخيالي، في تصريح أخير له.

تسكن في الجنوب
ثلاث تشكيلات قبليّة، تتركب من التبّو والطوارق والعرب


وفي حديث إلى «الأخبار»، يشاطر أستاذ العلاقات الدوليّة إبراهيم هيبة هذا الرأي، إذ يرى أنّ «تدفّق أعداد كبيرة من سكان دول الجوار تسبب بهجرة عدد كبير من سكان الجنوب الأصليّين، وذلك بالإضافة إلى اتخاذ عدد من الميليشيات المعارضة في دول الساحل من المنطقة قاعدة خلفيّة لنشاطها، ما يشكّل خطراً أمنيّاً محدقاً».
ويشير هيبة إلى أنّ هذه المشكلة بدأت بالتفاقم مع سقوط نظام القذافي عام 2011. ومما زاد من التعقيدات أنّ الجنوب الليبي كان يخضع بالأساس لتوازنات إقليمية، تصل في بعض الأحيان إلى مرحلة «التصارع». وعقب 2011، لجأت إلى هذه المنطقة، المرتبطة جغرافياً بمنطقة الساحل الأفريقي، جماعات مسلّحة، حتى إنّ قبائل انتقلت بدورها إلى هناك. وحاولت كل الأطراف، ومن بينهم الفرنسيون ذوو النفوذ التاريخي أفريقياً، استمالة تلك المجموعات لمصلحتها، هذا فضلاً عن محاولات حفتر والسرّاج الأخيرة، في وقت تبقى فيه القوى الموالية للقذافيين «على الحياد»، حتى الآن، في الصراع الدائر في سبها.
ويرى جلال حرشاوي، الباحث المختص في الشؤون الليبيّة، في حديثه إلى «الأخبار»، أنّ ثمة «صراعات بين القبيلتين تعود إلى ضغائن قديمة، لكن توجد أيضاً عوامل اقتصاديّة، إذ لم يبق للتبّو بعد إقصائهم من الاستفادة من موارد الجنوب الشرقيّ، سوى السيطرة على سبها». ويرى حرشاوي أنّه يوجد أيضاً عامل دوليّ، إذ «وعدت إيطاليا، بعد توسّطها بين القبيلتين العام الماضي، بإرسال موارد، ويبدو أن ذلك لم يحصل».
وتقع سبها في إقليم فزّان، ويقطنها نحو 200 ألف نسمة، وهي العاصمة الإدارية للإقليم والمركز الرئيسي للاتجار. ويوضح تقرير سابق لـ«مجموعة الأزمات الدولية» أنّ ما تبقى من سكان الإقليم (نحو 300 ألف نسمة)، يعيشون في البلدات الموجودة في الواحات. ويقول التقرير إنّ إقليم فزان المتشكِّل «في معظمه من صحراء تتخللها مجموعة صغيرة من الوديان المزروعة والواحات الصغيرة المتناثرة وسط كيلومترات من الرمال، هو منطقة غنية بالنفط الخام، وتوفر نحو 400 ألف برميل يومياً، أو ربع إنتاج ليبيا، وغنية أيضاً بالغاز الطبيعي، ومنذ عام 2014 والمنقبون الحرفيون يستخرجون الذهب في المنطقة من دون إشراف أو رقابة الحكومة». (يشير التقرير إلى أنّه يصعب تحديد مواقع المستوطنات المؤقتة للتنقيب، لكنّ الضالعين في هذه التجارة قالوا إن مدينة مرزق هي المركز الرئيسي لهذه الصناعة غير الرسمية، حيث توفر الخدمات والسلع للمناطق الغنية بالذهب على طول الحدود مع تشاد والنيجر).

جنوب ساخن

تسكن في جنوب ليبيا ثلاث تشكيلات قبليّة، تتركب من التبّو والطوارق والعرب، وتشهد منذ سقوط نظام معمّر القذافي اشتباكات حول الموارد النفطيّة والنفوذ، إضافة إلى السيطرة على ممرات تهريب السلع والبشر. ولفهم طبيعة الصراعات الدائرة حاليّاً، لا بدّ من العودة قليلاً إلى ما جدّ منذ انفلات الأوضاع عام 2011.
يرجع جيروم توبيانا وكلوديو غراميزي، في تقرير لهما نشر العام الماضي بعنوان «الدولة وغيابها في المثلث الحدودي بين ليبيا والسودان والتشاد»، إلى التحالفات التي شكّلت الواقع الحاليّ. ويقول التقرير إنّه يوجد في ليبيا «حوالى 300 ألف تشاديّ». وبحكم الارتباطات القبليّة، التحق جزء منهم بميليشيات للتبّو، لكن منهم من عمل أيضاً «مرتزقاً» مع أطراف مختلفة في الصراع الليبيّ العام، وبعضهم له خبرة سابقة من عمله مع القذافي.
من الناحية السياسيّة، انزعجت التشاد من سقوط نظام القذافي، حيث تكاثرت الحركات المتمردة وازدادت قوّة. نتيجة لذلك، يوجد نوع من التحالف اليوم بين نظام إدريس ديبي وخليفة حفتر، حيث سبق أن قصف الأخير عام 2016 قاعدة خلفيّة لـ«جبهة التناوب والوفاق» المعارضة، التي قالت في بيان لها إنّ الحادث يؤكد التناغم بين الرجلين.
وتحارب إلى جانب حفتر أيضاً ميليشيات سودانيّة متمردة ناشطة في إقليم دارفور. في مقابل ذلك، دعم نظام البشير إسقاط القذافي، حيث يشير التقرير إلى تسليح السودان، بالتنسيق مع الإمارات وقطر، للمعارضة الليبيّة في مرحلة مبكرة عام 2011 (شمل ذلك مثلاً تسليم 300 سيارة مسلحة إلى عبد الحكيم بالحاج). وتركز السودان الآن دعمها للميليشيات العربيّة في منطقة الكفرة، وفي الجنوب بصفة عامة، وذلك كجزء من صفقات تجمعها بسلطة طرابلس وميليشيات نافذة في الغرب. وإذا ما أضيف إلى كلّ ذلك حقيقة لجوء عدد كبير من الطوارق إلى ليبيا، عقب الحملة الفرنسيّة في مالي عام 2013، تصبحُ الصورة مكتملة. ففي ظلّ انشغال حكومتي الشرق والغرب الليبيّين بالتصارع حول المدن الكبرى في الشمال، خرجت أجزاء واسعة من الجنوب الشاسع عن السيطرة، وفيما يحاول الطرفان اليوم العودة إلى المشهد والإمساك بزمام الأمور، يصطدم كلاهما بوجود ميليشيات أجنبيّة متشبّثة بما حصّلته من مكاسب، وبصراعات قبليّة تشددت في توزع ولاءاتها الإقليميّة والدوليّة. وللإشارة، فإنّ قوةً تابعة لمصراتة (سلطات الغرب)، انسحبت بشكل كامل من الجنوب في بداية الصيف الماضي، تحت ضغوط محليّة، ما زاد من تعقيدات المشهد، وساعد قوات حفتر.
ويقول جلال حرشاوي في نهاية حديثه إلى «الأخبار» إنّ إرسال حفتر تعزيزات إلى سبها «خبر مقلق، فذلك يعني إمكانيّة تسيّد خطاب معادٍ تماماً للتبّو مفاده أنّهم أعداء لا يوجد حلّ معهم»، مضيفاً أنّ هذا النوع من التصرفات «لا يمكن أن يولِّد سوى المزيد من التقاتل: رفْض التفاوض وغياب الدبلوماسيّة يترادفان دائماً مع المزيد من العنف».




«الصراع القبلي جزء من المشهد فقط»

وسط الشدّ والجذب على المستويين السياسي والعسكري، بين سلطتي شرق ليبيا وغربها، تكشف المواجهات الدائرة جنوب البلاد هذه الأيام عن حجم تعقّد المشهد وتداخل عناصره، بدءاً من القبائل المحلية ووصولاً إلى الأطراف الإقليمية والدولية.
في السياق، رأى السياسي الليبي علي السعيدي أنّ «الحرب التي يشهدها الجنوب لن تتوقف، لأن الصراع فيه ليس قبلياً، بل إقليمي ودولي». وقال في تصريح إلى «بوابة أفريقيا الإخبارية»، إنّ «الصراع القبلي بين التبّو وأولاد سليمان هو فقط جزء من المشهد، خاصة بعدما تحالفت بعض القبائل مع أطراف مسلحة».
من جهة أخرى، طالب القيادي السابق في «الجماعة الليبية المقاتلة» عبد الوهاب قايد، الأطراف المتصارعة في مدينة سبها بوقف القتال الدائر. ووفقاً لـ«بوابة أفريقيا»، فقد ظهر قايد في مقطع قصير، قال إنه تم تسجيله أمس، من دون أن يحدد المكان الذي يتحدث منه، ووجّه خلاله خطاباً لمن وصفهم بأهله في سبها، مؤكداً أن الحرب لن تكون في مصلحة أي طرف، ومطالباً بوقف القتال قبل أن تتفاقم الأمور وتتضاعف الخسائر. وطالب مشائخ وأعيان المنطقة، ومن وصفهم بأمراء الكتائب، بالتدخل بصورة عاجلة لإيقاف الحرب، محذّراً ممّا قال إنها شعارات يرفعها البعض ولكنها سرعان ما تختفي. وأضاف قايد: «لنا عبرة في ما حصل في المنطقة الشرقية، وكيف تحولت ثاني كبرى المدن الليبية بنغازي إلى أطلال بعد عين».