لم يعد مسلسل الاغتيالات في المحافظات الجنوبية من اليمن مقصوراً على مدينة عدن التي شهدت أكبر عدد من عمليات التصفية منذ سيطرة قوات «التحالف العربي» عليها، بل باتت المدن التي لطالما عُرفت بالسكينة، كحال تريم (حضرموت) والغيضة (المهرة)، هي الأخرى، هدفاً لتلك العمليات. كما لم يعد ضحايا المسلسل المذكور من المحسوبين على ما تسمى «السلفية المعتدلة» فقط، بل أضحى أعلام المدرسة الصوفية هم أيضاً هدفاً لـ«المسلحين المجهولين» الذين ينفذون مهامهم بسلالة لافتة، قبل أن يتواروا عن الأنظار.
هذا ما أوحت به عملية الاغتيال التي استهدفت، أمس، أحد أبرز علماء الصوفية في تريم وسط حضرموت، وإمام «مسجد المحضار» (أحد أهمّ معالم المدينة)، الحبيب عيدروس بن عبد الله بن سميط، والتي أدت إلى مقتله. حادثة لم تجد السلطات الموالية للرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، حيالها سوى العزاء والوعود المتكررة بـ«تعقب العناصر الإرهابية»، فيما بدت لافتة مسارعة سلطات صنعاء إلى استنكار «الجريمة»، واعتبارها إياها فرصة لتجديد التنبيه إلى خطورة السيطرة السعودية - الإماراتية على الجنوب.
وأُردي بن سميط قتيلاً، صباح أمس، بعدما دخل منزله مسلحان اثنان بحجة طلب لديهما إليه، ولما استأذنهما لأداء الصلاة، أطلقا النار عليه ما أدى إلى مصرعه على الفور. وتُعدّ هذه أول عملية اغتيال تستهدف رموز الصوفية في تريم، منذ بدء مسلسل الاغتيالات ضد المشائخ في جنوب اليمن، وخصوصاً في مدينة عدن. وكانت عدن شهدت، خلال الأشهر الماضية، ما يزيد على عشرين عملية تصفية بحق الخطباء وأئمة المساجد، وقعت آخرها الشهر الماضي مودية بحياة إمام «مسجد الثوار» في مديرية المعلا، رئيس دائرة التنظيم والتأهيل في حزب «التجمع اليمني للإصلاح»، شوقي كمادي.
ولئن اتخذت تلك الاغتيالات طابعاً سياسياً بالنظر إلى أن معظم ضحاياها هم من التيار السلفي المناوئ لأبو ظبي، والرافض للانخراط تحت مظلة رجالاتها في عدن، فإن وصول موسى التصفية إلى ذقن الصوفيين الملتزمين الحياد منذ اندلاع الحرب في آذار/ مارس 2015، يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول المستفيد من استهداف رموزهم. لا تنفي مصادر مطلعة في حضرموت احتمال أن يكون تنظيم «القاعدة»، الذي لا يزال يمتلك مساحة نفوذ لا يُستهان بها في وادي حضرموت، هو الأداة التنفيذية لعملية الاغتيال التي وقعت أمس، لكنها تنبه إلى أن التنظيم مخترق بالفعل من أجهزة المخابرات السعودية والإماراتية، إن لم يكن على صلة بقيادتي الدولتين في جنوب اليمن، كما أن علاقات تجمعه بشخصيات وتشكيلات موالية لـ«شرعية» هادي.

لا يُستبعد أن يكون «القاعدة» الأداة التنفيذية للاغتيال
من هنا، تُطرح احتمالات متعددة بشأن هوية الطرف المسؤول عن التصفية، خصوصاً أن الأخيرة تأتي في وقت يشهد فيه وادي حضرموت تجاذبات كبيرة بين حلفاء أبو ظبي الداعين إلى إخراج قوات المنطقة العسكرية الأولى (المحسوبة على «الشرعية») من الوادي، وبين الرافضين لذلك، بالتوازي مع تحركات واسعة لعناصر «القاعدة» داخل المنطقة. وفي جميع الأحوال، تتصدر قيادة «التحالف» المشهد بوصفها المسؤولة عما آل إليه الوضع في جنوب اليمن من انفلات أمني غير مسبوق.
حقيقة بدا واضحاً الإلحاح عليها في جميع البيانات الصادرة من صنعاء تعليقاً على اغتيال بن سميط. رئيس «المجلس السياسي الأعلى»، صالح الصماد، رأى، في برقية تعزية، أن «اليمن خسر برحيل بن سميط قامة علمية ودينية عُرفت بالسعي الدؤوب لتعزيز قيم الوسطية والاعتدال»، مشدداً على ضرورة «الوقوف صفاً واحداً لمحاربة الجماعات الإجرامية ومن يقف وراءها والداعمين والممولين لها». واستنكر المكتب السياسي لـ«أنصار الله»، بدوره، حادثة الاغتيال، معتبراً، في بيان، أنها «تأتي في سياق المخطط الاستعماري لدول العدوان التي تحتل أجزاءً من الوطن»، في حين عدّ رئيس «اللجنة الثورية العليا»، التابعة لـ«أنصار الله»، محمد علي الحوثي، الحادثة «ضمن ضمن سلسلة الجرائم التي يرتكبها أعداء اليمن وعملاؤهم، لاستهداف علماء اليمن وعقلائه وأحراره، قبل وخلال العدوان الأمريكي السعودي». ودعت «رابطة علماء اليمن»، من جانبها، اليمنيين الجنوبيين إلى أن «لا يسمحوا للإماراتيين والسعوديين وأدواتهم بأن يصفّوا علماءهم»، محذرة من أن «هذه الجريمة لن تكون الأخيرة إذا لم يتيقظ علماء وأحرار الأمة، ويتخذوا موقفاً حازماً من المحتل وأدواته». ولفتت، في بيان، إلى أن «قوى الاحتلال تعمل بكل جهد لبذر الفتنة المناطقية والمذهبية حتى يتمكن المحتل من تحقيق أهدافه»، مضيفة أن «أذرع المحتل الداعشية قامت باغتيال وتصفية الكثير من العلماء والدعاة في مختلف المحافظات».
والجدير ذكره، هنا، أن عملية اغتيال بن سميط تأتي بعد أيام من لقاء موسع جمع رئيس «الرئيس المجلس السياسي الأعلى» بعدد كبير من علماء الصوفية في العاصمة صنعاء. وتحدث الصماد، في ذلك اللقاء الذي انعقد يوم 25 شباط/ فبراير الماضي، عن عمليات الاغتيال التي يشهدها الجنوب، لافتاً إلى أنها تستهدف «حتى أولئك المحسوبين عليهم (السعودية والإمارات) من السنة والصوفية. هم لا يتركون أحداً على حاله، يقتلون الخطباء وغيرهم لأنهم لا يمتلكون مشروعاً، هم جاؤوا لينشروا الفوضى ويقضوا على الشعب اليمني»، مضيفاً أن «عدن هي نموذج القتل والتفجير والاستباحة الذي يريدون تعميمه على بقية محافظات الجمهورية».
على المقلب المضاد، اكتفى الرئيس المستقيل بالتعزية بمقتل بن سميط، والإشادة بـ«فكره الوسطي المعتدل»، فيما شدد نائب الرئيس، علي محسن الأحمر، على ضرورة «ملاحقة الجناة، وتعقب تلك العناصر الإرهابية لتنال جزاءها الرادع».
(الأخبار)