تونس ــ الأخبارفي مشهد لم يحدث منذ سنوات، تجمّع أول من أمس عشرات من الأمنيّين داخل مبنى محكمة في العاصمة، وفي محيطه، مطالبين بالإفراج عن عناصر أمن يُشتبه في تعذيبهم أحد الموقوفين. ولم يمر الحدث مرور الكرام، إذ اشتعلت موجة من الاحتجاجات قامت خلالها منظمات حقوقيّة وأحزاب سياسيّة باتهام «النقابات الأمنيّة» بالتمرّد على القانون، فيما ردّت الأخيرة متّهمة خصومها بـ«مساندة خفافيش الظلام والاسترزاق من تجارة الإرهاب».

وليست هذه المرة الأولى التي تتدخّل فيها «النقابات الأمنيّة» (تأسّست بعد الثورة) في عمل القضاء، إذ سبق لعناصر الأمن، في السنوات الأولى التي تلت سقوط نظام بن علي، أن اقتحموا محاكم وأفرجوا عن زملائهم عنوةً. وفي عام 2011، تعرّض رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي (كان يشغل منصب رئيس الوزراء المؤقت) ورئيس أركان الجيش الأسبق رشيد عمار لهجوم من أمنيّين غاضبين فيما كانا يعقدان ندوة صحافيّة في مقرّ الحكومة، لأنّهم اعتبروا خطاب قائد السبسي مسيئاً لهم.
ولكن إذا كانت سطوة نقابات الأمن قد تراجعت منذ انتخابات 2014، إذ سُجِنَ عدد من قياداتها في فترات متقطّعة، فإنّ تصرفاتها المثيرة للجدل لم تنقطع قطّ. (خلال الصيف الماضي، فضّت حفلاً فنيّاً بالقوّة، معتبرةً أن المغني أساء إلى الأمن، وهددت أعضاء البرلمان برفع الحماية عنهم في حال عدم إقرار حقهم في الاقتراع الانتخابيّ).

في 2011 تعرّض السبسي لهجوم من أمنيّين اعتبروا خطابه مسيئاً لهم


اليوم، يبدو أنّ زخم تحركات «النقابات» نصرةً لزملائهم بصدد اكتساب زخم جديد. وكان يكفي أن يُعرض خمسة عناصر من «فرقة الشرطة العدليّة» على محكمة بن عروس في العاصمة تونس، حتى تثور «نقابة موظفي الإدارة العامة للأمن العموميّ»، وتُصدِر بياناً تدعو فيه عناصر الأمن إلى «الاستنفار والحضور بكثافة أمام المحكمة» و«مقاطعة تأمين الجلسات بها»، إضافة إلى «عدم المثول مستقبلاً أمام الجهات القضائيّة بخصوص القضايا المرتبطة بممارسة المهام الأمنيّة». واعتبر البيان أنّ الأمنيّين قبضوا على عصابة سلبت امرأة، وتبيّن أن على رأسها شخص متورط في قضايا إرهابيّة، وأن الأمر لا يتعلق بجريمة عاديّة بل بـ«عمليّة احتطاب جهاديّة» (احتطاب في قاموس الجهاديين هو السرقة لتمويل الجهاد). بناءً على ذلك، أشارت النقابة إلى أنّ الاحتجاج على نشاط منظوريها ليس بريئاً، بل جاء من «لدن جحافل من أشباه الحقوقيّين والمحامين الذين عُرفوا سابقاً بفتح دكاكينهم لمساندة خفافيش الظلام والاسترزاق من تجارة الإرهاب».
ويوم المحاكمة، أول من أمس، تجمهر في محيط المحكمة وداخلها عشرات من عناصر الأمن بأسلحتهم وأزيائهم وسياراتهم المهنيّة. وأمام الضغط، انتهت الجلسة بإطلاق سراح الموقوفين، وقادت بعدها النقابات الأمنيّة «مسيرة انتصار» احتفاليّة، في مشهد خلّف احتجاجاً واسعاً في صفوف المنظمات القضائيّة المهنيّة والمجتمع المدنيّ. وقد قام أعضاء من هيئة «نقابة القضاة التونسيّين»، أمس، بزيارة لمحكمة بن عروس لمساندة زملائهم ودعمهم، وأصدروا بياناً اعتبروا فيه أنّ ما حصل من «وقائع مخجلة... لا تعتبر احتجاجاً سلميّاً بل ضغطاً مباشراً على القضاء... وهي تجاوزات ترقى إلى مرتبة الجرائم».
كذلك أصدرت أمس سبع منظمات وطنيّة، من بينها «النقابة الوطنيّة للصحافيّين التونسيّين» و«الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان» و«الجمعيّة التونسيّة للمحامين الشبان»، بياناً مشتركاً، نددّت فيه بـ«تغوّل ما يسمى النقابات الأمنيّة التي باتت تشكّل تهديداً واضحاً على السلم الاجتماعيّ في الوطن»، وحمّلت السلطة التنفيذيّة مسؤوليّة «تطهير السلك الأمنيّ ومحاسبة من ثبتت إدانتهم».
لم تغب الأحزاب أيضاً عن إدانة ما حصل، إذ أصدر «التيار الديموقراطيّ» بياناً أدان فيه «تمرد فصيل من النقابات الأمنيّة على الدولة ومؤسساتها القضائيّة»، كما نشرت «حركة النهضة» بياناً دعت فيه إلى «ضرورة وضع حدّ لهذه التصرفات التي تضعف الدولة وتسيء لصورة تونس».
ومن جهة أخرى، لم يصدر عن السلطة التنفيذيّة، حتى مساء أمس، توضيحات أو مواقف، بل اكتفت بالصمت، رغم تعبير رئيس الحكومة يوسف الشاهد، في حوار متلفز قبل أيام، عن التزامه بمقاومة تجاوزات الأمن التي تشهد ارتفاعاً يثير قلق المراقبين.