تونس | لم تكد صفحة صراع نقابة التعليم الثانوي مع وزير التعليم السابق ناجي جلول، تنطوي، حتى عادت بنسق مشابه مع الوزير حاتم بن سالم، المُعيّن منذ نحو ستة أشهر، في ما يؤكد أنّ المشهد يتخطى الأزمة العابرة نحو أزمة بنيوية يُعاني منها قطاع التعليم الثانوي بمجمله.وبرغم ابتعاد بن سالم عن سياسة سلفه في التهجّم على النقابات في تصريحاته الإعلاميّة الدوريّة، فإنّ تعطّل المفاوضات في عدد مهم من الملفات، قاد النقابة إلى إقرار إضراب عن العمل اليوم كخطوة أولى ستتلوها إجراءات تصعيديّة أخرى قد تصل حدّ حجب نتائج الامتحانات.

وفي ندوة صحافيّة عُقدت أمس، أوضح الكاتب العام للنقابة، لسعد اليعقوبي، أنّ وزارة التربيّة ترفض تطبيق اتفاق وُقع عام 2011 يقضي بتصنيف التعليم «مهنة شاقّة وفتح باب التقاعد المبكر أمام المدرسين» وبالتالي استثنائهم من القرار الذي توافقت مبدئياً بشأنه الحكومة مع «اتحاد الشغل»، والقاضي بالترفيع في سنّ التقاعد تدريجاً إلى 62 عاماً ثم 65 عاماً. إضافة إلى ذلك، عبّر الكاتب العام للنقابة عن رفضه سياسة وزارة التربيّة في الإصلاح الدراسيّ الذي انطلق منذ نحو ثلاثة أعوام ولا يزال جزؤه الأكبر معطلاً إلى الآن، خاصّة في ما يتعلق بالاتفاقات المعقودة أخيراً بين تونس وفرنسا، التي يرتبط أحدها بالسماح لمدارس تونسيّة خاصّة بتدريس المنهاج الفرنسيّ. ورأى اليعقوبي أنّ لدى الحكومة نيّة في «التخلّص من أعباء التعليم العموميّ» الذي يحتضن السواد الأعظم من التلاميذ، خاصة أنّ السلطات تحثّ من جهة على الاستثمار في قطاع المدارس والجامعات الخاصة، التي يرتفع عددها سنة تلو الأخرى، فيما تستمر العناية بالمدارس العموميّة في التدهور.
نيوليبراليّة زاحفة
تحيل عودة الصراع بين نقابة التعليم الثانويّ ووزارة التربيّة إلى عودة الشد والجذب بين تصورين لدور الدولة: يقود الأول الاتحاد العام التونسيّ للشغل الذي يدافع عن إجراء إصلاحات ضمن وجود دولة رعاية اجتماعيّة، فيما يقود الثاني الحكومة التي تدافع عن إصلاحات نيوليبراليّة تغذّيها توصيات صندوق النقد الدولي. ففيما يشدد «اتحاد الشغل» على ضرورة إصلاح المؤسسات العموميّة، التي تشمل عدداً مهماً من المصانع والمصارف، تميل الحكومة إلى إجراء عمليات خصخصة و«تخفّف من الأعباء».
وتكررت في الآونة الأخيرة تصريحات الأمين العام لـ«الاتحاد»، نور الدين الطبوبي، بشأن رفض منظمته للخصخصة، محملاً مسؤوليّة استمرار عجز المؤسسات العموميّة عن تحقيق أرباح وتحولها إلى متلقٍّ للمساعدات العموميّة عوض مساهمتها في موازنة الدولة، إلى خلل في سياسات الحوكمة وغياب الإرادة السياسية للنهوض بها. في هذا السياق، أطلقت المنظمة أمس، «حملة الدفاع عن القطاع العام»، ودشنتها بزيارات لثلاثة مصانع حكوميّة في مدينة بنزرت (شمال البلاد)، حيث عُقدت اجتماعات عامّة وجلسات تدارس تحضيريّة للمفاوضات الاجتماعيّة التي من المرتقب انطلاقها بعد أقلّ من شهرين.

الصراع بين
التصورين الاجتماعيّ والنيوليبراليّ للدولة ليس مستجداً


من جهتها، تبرر الحكومة نيّتها التوجه نحو الخصخصة بضرورة حشد الموارد لسد عجز الموازنة. وترتبط المسألة من منظور السلطة بـ«خيارات عقلانيّة» تقتضي التخلص من مؤسسات عاجزة أو دمجها ضمن «برنامج الشراكة بين القطاعين العام والخاص» لتحويلها إلى مؤسسات رابحة وقادرة على المنافسة في سوق حرّة. في ما عدا ذلك، ترى الحكومة أنّ الخيار الوحيد الآخر هو التمادي في الاقتراض الذي صارت شروطه أكثر قسوة مع بقاء النمو في مستويات ضعيفة، فضلاً عن ترتيب تونس قبل أيام في قائمة ماليّة أوروبية سوداء تشمل البلدان التي تحمل أنظمتها الماليّة عيوباً تجعلها «أكثر عرضة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب».
هذا الصراع بين التصورين «الاجتماعيّ» و«النيوليبراليّ» ليس مستجداً، إذ على امتداد السنوات الموالية للثورة وقعت حالات مدّ وجزر أدت إلى حالة جمود لا غلبة فيها لأيٍّ من الطرفين. فمع رفض اتحاد الشغل إجراء عمليات تسريح واسعة لموظفين من القطاع العام وتمسكه كلّ عام بمفاوضات لترفيع الأجور، انخرطت الحكومة في سياسة اقتراض مكثّف لتغطية النفقات، ما أدى في نهاية المطاف إلى التزام توصيات صندوق النقد الدولي. وفي غياب تفاهمات وحلول وسطى بين الطرفين، صارت النتيجة اليوم واضحة، إذ وفق تحليلات «المرصد التونسي للاقتصاد»، وهو مؤسسة دراسات مستقلة، فقدت العملة التونسيّة بين عامي 2013 و2017 ما يقارب 49 في المئة من قيمتها، وتصطدم الحكومة اليوم، مع حلول آجال بداية دفع معظم فوائض القروض وأصولها، بـ«جدار ديون» يقلص هامش تحركها ويمسّ حتى بإمكانية تعهدها بمصاريفها الأساسيّة.