تونس | يوم الأربعاء الماضي، أوصل عدم «تغيير مسار الأمور» إلى تصويت البرلمان الأوروبي على قرار إدراج تونس، ودول أخرى، ضمن قائمة وضعتها المفوضيّة الأوروبيّة بغية مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وذلك الوصف المشار إليه أعلاه، جاء في مقالة لصحيفة «لوموند» الفرنسية، بعنوان: «الاتحاد الأوروبي يُدرِجُ تونس على لائحته السوداء للدول المعرَّضة لتمويل الإرهاب». لكن الإشارة إلى أداء الدبلوماسية التونسية بهذا الأسلوب في سياق تناول أزمة ما بات يعرف بـ«اللائحة (الأوروبية) السوداء»، انعكس كزلزال قوي ضرب الشارع السياسي التونسي لأنّه جرى الكشف عن أسلوب بدائي وغير محترف يُتّبع مع الجانب الأوروبي حتى لا تُصنَّف البلاد في تلك اللائحة. وهذا أمر لا ينفصل عمّا يحدث داخل البلاد حيث يتواصل تأزّم الواقع الاقتصادي، فيما يشهد المستوى السياسي ارتباكاً متزايداً.

«فوسفات قفصة»: الأزمة مستمرة

في 20 كانون الثاني الماضي، تعطّلت عمليات الإنتاج في مدن الحوض المنجمي في ولاية قفصة إبان إعلان نتائج توظيف في شركة فوسفات قفصة، أكبر مشغل في المنطقة. السبب أنّ من أجرى عمليات التوظيف التي تشمل 1700 عامل جديد، متهم باتباع المحسوبية، وهو ما تنفيه الشركة. وبينما دخل المحتجون منذ أسابيع في اعتصامات، ما أدى إلى تعطيل الإنتاج كلياً، خرج أمس، وزير الطاقة والمناجم خالد قدور، محذِّراً من الوقت الذي «تتزايد فيه الخسائر المالية». وقال إنّ الوضع الحالي «غير مقبول ولا يجب أن يستمر... كذلك فإنّه لا يشجع المستثمرين على القدوم إلى البلاد».
وفي تصريح إذاعي، بدا قدور مبرراً لعمليات التوظيف التي جرت، قائلاً إنّه «لا يمكن الشركة أن تشغّل الجميع، فحجم الرواتب فيها يبلغ سنوياً نحو 500 مليون دينار، وهي تشمل نحو 30 ألف موظف، بعضهم يشغل مهناً غير واضحة»، مستدركاً بأن الشركة «ستجتمع في وقت لاحق» لإصدار قرارات جديدة.

دعا «اتحاد الشغل» إلى
إجراء مراجعة جذرية في
مفاصل الدولة


وتُعدُّ تونس من أهم مصدري العالم لمادة الفوسفات، لكن حجم الإنتاج تهاوى من نحو 8 ملايين طن سنوياً إلى أقل من النصف بعد الثورة عام 2011، وذلك بسبب الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات العمالية. وتراجع الإنتاج في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي إلى 160 ألف طن مقارنة بنحو 500 ألف طن خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ولعلّ هذا الواقع هو ما يدفع الوزير والحكومة إلى محاولة إيجاد حلول، تبدو أنّها بصيغة «كيفما اتفق». ولكنّه يدفع أيضاً نحو تدخّل «الاتحاد العام التونسي للشغل»، الذي سبق له أن أعلن عقد اجتماع «مع نقابات المناجم (اليوم) للنظر في تطورات الأوضاع بالشركة، وإصدار مقترحات لإنقاذ المؤسسة والحفاظ على ديمومتها».
برغم اجتماع «الاتحاد» اليوم، يبدو أنّ عين الأخير تذهب إلى ما هو أبعد من «أزمة الفوسفات»، إذ برزت لأمينه العام نور الدين الطبوبي، تصريحات مهمة، قبل يومين، تدعو رئيس الحكومة يوسف الشاهد، إلى إجراء «مراجعة جذرية في مفاصل الدولة ومؤسساتها»، مبرراً ذلك بأنّها «مفككة وتعمل دون تنسيق في ما بينها، خاصة في الملفات الكبرى». ولم يقف عند هذا الحد، إذ أضاف أنّه «لا بد من مراجعة تقييمية عامة، خاصة في العديد من الوزارات التي جاءت بها المحاصصة السياسية». وفي إشارة ضمنية إلى إدراج تونس على «اللائحة الأوروبية»، فإنّه دعا حكومة الشاهد إلى «إصلاح الشأن العام ومراجعة السياسة بدلاً من إلقاء اللائمة على المجتمع الدولي». وأيضاً، لم يتوقف الأمين العام لـ«الاتحاد»، فقال: «اليوم نشهد تداول 7 حكومات منذ الثورة، لكنها تشكلت بالمحاصصة والأخطاء نفسها، ما خلّف تعطيلاً كاملاً في بعض الوزارات»، لافتاً إلى أنّ منظمته ليست ضد المحاصصة السياسية، لكن على «الأحزاب تقديم شخصيات قادرة على خدمة تونس».
الوجه الآخر للتصريحات يظهر حين الإدراك أنّها تأتي في ظلّ توتر سياسي في حكومة الشاهد بشأن تعيين خلف لمحافظ المصرف المركزي الشاذلي العيّاري، الذي من الظاهر أن مغادرته منصبه لن تكون سلسةً، بل ستصحبها إشكالات بالنسبة إليه. وتزداد تلك الترجيحات بفعل إعلان المتحدث باسم النيابة سفيان السليطي، أنّ السلطات ألقت القبض قبل أيام على موظفين اثنين وأبقت على ثلاثة آخرين «في حالة صراح». وأوضح أنّ القرارات جاءت في إطار قضية فُتحَت في بداية الأسبوع الجاري بشأن جرائم تتعلق بالرشى والارتشاء وشبهة غسيل وتبييض الأموال واستغلال موظف عمومي لنفوذه بدعوى الحصول على حقوق وامتيازات.‎

غضب أوروبي

في ظلّ مجمل هذا المشهد، برزت في الساعات الأخيرة تصريحات أوروبية قد تكون تونس المتضرر الأول منها نظراً إلى إدراجها مجدداً ضمن دول «اللائحة (الأوروبية) السوداء». في هذا الصدد، دعا المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية بيار موسكوفيسي، إلى فرض عقوبات على الدول التسع المدرجة على قائمة الاتحاد الأوروبي السوداء، مطالباً بالشفافية بشأن الالتزامات التي قطعتها الدول الـ55 المدرجة على «القائمة الرمادية» التي تشمل بدورها البلدان التي تنطوي أنظمتها الماليّة على مخاطر عالية متعلقة بالتهرّب الضريبيّ (بعد أقل من شهرين من وضع القائمة السوداء للملاذات الضريبية، سحب الاتحاد الأوروبي في 23 كانون الثاني/ يناير الماضي ثمانية بلدان من أصل 17 مدرجة عليها، ما أثار احتجاجات المنظمات غير الحكومية، ونُقلت هذه البلدان إلى القائمة الرمادية للدول التي تعهدت بالالتزام بالقواعد الضريبية).
وطالب موسكوفيسي، في حديث إلى شبكة «فرانس 2» الفرنسية، «بفرض عقوبات على دول القائمة السوداء»، داعياً إلى «عدم (السماح بمرور) أموال موازنة الاتحاد الأوروبي أو المصارف العامة الأوروبية عبر الشبكات المالية لدول تعَدّ بمثابة ملاذات ضريبية». وأوضح أن المصرفين العامين الأوروبيين المعنيين بذلك، هما بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
وكرر المسؤول الأوروبي: «أطلب من وزراء مالية الاتحاد الاوروبي الإفصاح عن كل الالتزامات المتخذة وجعلها شفافة»، معتبراً أن «الشفافية أساسية في مكافحة التحايل والتهرب الضريبي». وجدير بالذكر أنّه سبق أن وضعت تونس، نهاية العام الماضي، في «القائمة السوداء» للدول التي قد تمثّل «ملاذاً ضريبيّاً»، وذلك قبل «تصحيح» القرار نهاية الشهر الماضي وإعادة تصنيف تونس في «القائمة الرماديّة»، ما قد يزيد من دقّة المشهد.