غصّت صالة «مؤتمر سوتشي» بالمشاركين الذين قدموا من دمشق وعواصم أخرى لوضع لبنة أولى في بناء التفاهم حول «سوريا تتسع للجميع». فوجئ المعارضون بأن دمشق بيّتت النية لتشكيل لجنة دستورية بالانتخاب، ولم يرُقهم ذلك، 1295 مشاركاً في وفد دمشق، مقابل 101 للمعارضة. اعترض المعارضون، وقال رئيس «منصة موسكو» قدري جميل: «آخر ما تتحدثون عنه هو الانتخابات»، فيما أشار المعارض هيثم منّاع: «اتفقنا مع الدول الضامنة على تشكيل لجنة بالتوافق وليس بالانتخابات، لو أخبرتمونا أن هناك انتخابات لكنا أحضرنا آلاف المشاركين».
لم يكن لقوى المعارضة التي شاركت في المؤتمر حضور وسط الجمع الذي حشدته الحكومة السورية من مناصريها كيفما اتفق، وأرسلته للمشاركة في مؤتمر الحوار. نظّم الراعي الروسي كل ما يضمن إنجاح المؤتمر، لكن ليس بوسعه اختيار المشاركين عن الحكومة السورية أيضاً. موظفون يتحدثون العربية كانوا مرشدين للمشاركين يقومون بمساعدتهم، فيما خُصصت زاوية صغيرة قرب المخرج للمشاركين من المعارضة، يبدو أن ذلك كان مدروساً تحسباً لأي طارئ قد يحدث، وتركوا للقادمين من دمشق بقية الصالة.
اعتمدت دمشق على الكمّ، لا النوع. بدا واضحاً أن جزءاً من المشاركين لا يعرفون لماذا ذهبوا إلى سوتشي، بينما لم يكن لدى آخرين سوى خيار المشاركة، وإلا فستُثار حول رفضهم الكثير من الأسئلة، فهم ليسوا راضين عن الحكومة ولا تعجبهم المعارضة، ولدى سؤال بعضهم: لماذا وافقتم على المشاركة إن لم تكونوا مقتنعين بجدواها؟ أجابوا: «ما بدنا شوشرة، تقرير واحد ونختفي، لذا اخترنا المشاركة في مؤتمر سوتشي». ورأى آخرون في السفر إلى سوتشي فرصة للاستجمام، هي رحلة مغرية للموظفين المشاركين، مع وجود بدل إذن سفر خارجي وتعويض مالي جيد.
تعثّر افتتاح المؤتمر إثر محاولات المعارضين القادمين من تركيا لتعطيله والتشويش عليه بعد اعتصامهم في المطار ورفضهم المشاركة، دفع المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا إلى الاعتذار عن عدم الحضور. كان المشاركون يجلسون في القاعة من دون أن يعرفوا ما يجري في الخارج، بعد انتظار أكثر من ساعتين في القاعة مع أنغام موسيقى كلاسيكية، غفا بعض المشاركين فوق كراسيهم، كان ينبههم فقط صوت معراج أورال، كل ربع ساعة حين يصرخ بصوته الجهوري: «نطالب بلواء اسكندرون». يبدو أنه جاء ليقول ذلك فقط. وكان دوره إيجابياً لجهة ضمان عدم نومهم طويلاً.

الصياح ممنوع


غفا بعض المشاركين قبيل المؤتمر على أنغام الموسيقى في قاعة الانتظار

وزع الروس على المشاركين دليلاً فيه البرنامج التفصيلي، وضم كذلك قائمة الممنوعات التي يحظر على المشاركين القيام بها، منها «منع الصياح واستخدام الشعارات، ومنع استفزاز الآخرين». يبدو أن الممثل زهير رمضان لم يقرأ الكتيب جيداً، أو لا تعنيه قائمة الممنوعات، فقد كان بطل النسخة الأولى من سوتشي بلا منازع، إذ لم يدخر جهداً ليُفهم المشاركين من المعارضة أن الوطن لمن بقي فيه. لم يختر أن يلقي كلمة كما فعل الممثل بشار إسماعيل ويتابع ما يجري، بل راح يقاطع كل فكرة يطرحها الجالسون على المنصة من المعارضة، صارخاً: «إن الوطن وطننا نحن وليس وطنكم أنتم»، وبقية المشاركين يرشونه بالتصفيق والصراخ «عفارم عليك أبو جودت».
لم يكن ينقص بعض المشاركين في سوتشي سوى «شبريات» وعصي حتى يكتمل سيناريو الحوار الوطني، لأن القادمين من دمشق يرون في أنفسهم أنهم أبطال «حارة الضبع» المقاومين الأبطال المدافعين عن الوطن، أما البقية فهم مجرد «خونة» يعيشون في الخارج ليتآمروا على الوطن. تتحرك الممثلة أنطوانيت نجيب ببطء. واضح أنها شاخت كثيراً، يتساءل البعض لماذا جاءت إلى سوتشي؟ يرفض الفنان زهير عبد الكريم التقاط الصور، يحتاج من يطلب التصوير معه خلاصة سجل عدلي «غير محكوم» من دمشق، بينما خطفت الأضواء الفنانة سلمى المصري. وراقت المشاركين ابتسامات كندة حنا وسعد مينا.
بعض المشاركات لم يكنّ معنيات أساساً بما يجري في القاعة، وفتحن أحاديثاً جانبية مع الموظفين الشباب الروس. كانت الفرصة مواتية للتعارف وتبادل أرقام الهواتف والإيميلات، وسهّل الأمر أن أصحاب العيون الملونة يجيدون العربية، قد يضمن ذلك تأمين زيارات أخرى لسوتشي من دون وساطة أحد أو المرور بالروتين الأمني الذي يحتاجه أي مواطن سوري يودّ أن يغادر خارج بلده.

تشويش مقصود

حاول المشاركون القادمون من دمشق التشويش على كلمات المعارضين، يبدو أن أكثرهم جاؤوا لهذه الغاية. كانوا يستمعون بإصغاء إلى الكلمات التي ألقاها أعضاء وفدهم، إلى أن تحدثت المعارضة رندة قسيس، وما إن بدأت كلمتها حتى قاطعتها أصوات بعض المشاركين، بالصراخ، «من أنتِ؟»، يجيب آخرون: «مواطنة فرنسية». قاطع مشارك آخر حديث أحمد الجربا، إلا أن الأخير لم يقبل بالمقاطعة فاعترض وطلب من مقاطعه الإصغاء، لكنه لم يصغ ولم يحترم أصول الحوار، حتى وصل الأمر إلى تبادل الشتائم، ما أدى إلى تدخل الأمن الروسي وانتشاره في القاعة إلى نهاية المؤتمر.
كان رئيس الجلسة ضعيفاً، ولم يكن بمقدوره ضبط إيقاع الجلسات، وسمح للكثير من المشاركين القادمين من دمشق بإلقاء كلمات، بينما لم يكن ذلك مُتاحاً للمشاركين باسم المعارضة. انتقلت الخلافات لاحقاً إلى البيان الختامي. اعترض وفد دمشق على بعض الكلمات الواردة في البيان الختامي. في البند الأول اعترض المشاركون وعلت أصواتهم في القاعة على جملة «استعادة الجولان المحتل بالوسائل القانونية وفق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي»، وطالبوا بإضافة كلمة المقاومة المشروعة إلى البند، واستمر الخلاف الذي برره القائمون على المؤتمر بأن البيان كُتب باللغة الروسية ثم تُرجم إلى اللغة العربية، وهذا أدى إلى اختلاف بعض الصيغ، وطالب المشاركون بشدة إعادة كتابة البيان باللغة العربية ثم ترجمته إلى بقية اللغات وليس العكس. تمكن الدكتور هيثم منّاع بمداخلاته من أن يقسم فريق دمشق، تقدم باقتراحات وأفكار أعجبت بعض المشاركين فصفقوا له، أزعج ذلك المؤيدين الشوفينيين، إذ كانت نظراتهم ترصد من يصفق لمداخلات مناع أو يبدي إعجابة بمقترحاته.

شيوخ العشائر

انقسمت العشائر على نفسها مع بداية الأزمة السورية، وصار للعشيرة أكثر من شيخ. كان مؤتمر سوتشي أول لقاء يجمع شيوخ الداخل بشيوخ الخارج. لم يكن اللقاء ودياً، إذ نشب الخلاف الذي كاد أن يصل إلى العراك بالأيدي لولا تدخّل الأمن الروسي، وحصل ذلك أكثر من مرة. كان الشيخ نواف البشير يطالب شيوخ الداخل بإثبات وجودهم أمام أولئك الشيوخ «المزيفين»، كذلك لم يتوقف عن تسجيل أسماء من يرغبون في تسوية أوضاعهم. يتحلق حوله مجموعة من السوريين، يطلب منهم أسماءً وصوراً عن البطاقات الشخصية، هو يعمل على تشكيل «جيش العشائر» عبر تسوية أوضاع مطلوبين للدولة السورية.