كان صراع الملك سعود بن عبد العزيز مع أخيه الملك فيصل في ستينيات القرن المنصرم، الذي انتهى بنفي الأول إلى العاصمة اليونانية أثينا، وتولي الأخير العرش، إحدى أهمّ العلامات الفارقة خلال تسعة عقود من الحكم السعودي. وقد تمخّض ذلك الصراع عن توافق على مسار غير محدد المعالم لانتقال الحكم أفقياً بين الأخوة، وتوزيع المغانم بين أولئك الذين انتصروا لفيصل ضد سعود. هذا المسار أنتج صراع الأجنحة الذي جرى ضبطه كي لا يظهر في العلن، وأسّس لمجموعة أعراف وعادات تحكم وتدير ديناميكيات الحكم وتوزيع الثروة داخل الأسرة المالكة، مع علوّ كعب نسبي للجناح السديري من الأبناء.
كذلك إن الصراع بين فيصل وسعود أرسى قاعدة تقضي بأن يكون الموت وحده هو الفيصل في أي تغيير في سلّم الحكم، سواء في موقع المُلك أو ولاية العهد، تجنباً لتكرار الصراع وانفراط سبحة العائلة. ولعلّ حقيقة بقاء الملك فهد على كرسي العرش رغم مرضه الشديد في آخر عشر سنين من حكمه، أحد دلائل تطبيق تلك القاعدة.
مع وفاة الملك عبد الله، ووصول الملك سلمان إلى العرش عام 2015، وصعود نجله الشاب محمد إلى الواجهة، بدأت مرحلة جديدة أفضت إلى تغييرات سريعة ومتتالية في سلّم الوصول إلى العرش، لم يكن الموت فيها هو الفيصل. وقد أدت إلى صراعات داخلية في أروقة الحكم، باتت تظهر إلى العلن، وتصفية شاملة للأجنحة التقليدية في العائلة، ما أنتج تحولاً من عملية الانتقال الأفقي للحكم بين أبناء المؤسّس إلى حصرها عمودياً في ذرية الملك سلمان.

انتقال العرش

إن مسألة انتقال الحكم في المملكة لا تعبّر بأي حال من الأحوال عن تغيير في رأس الحكم فقط، بل تمتد العملية إلى تبديل في البنية البيروقراطية للدولة، فتسلخ جزءاً من جهازها البيروقراطي وتستبدل به جهازاً آخر تتوزع فيه رؤوس المناصب بين مرافقي الملك الجديد وأتباعه، كنوع من توزيع الغنائم. ولذلك، تنعدم حالة المأسسة والتخطيط الاستراتيجي التي تحكم الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة، بل تُختزل المسألة في السياسات اللحظية لكل عهد جديد، التي تكون عادةً ردّ فعل واستجابة لسياقات اجتماعية واقتصادية في تلك اللحظة، عبر بناء آليات جديدة في توزيع الريع واكتساب الشرعية عبرها. وحتى وإنْ عبّر كل عهد عن حماسة ووعود بخطط تطويرية وإصلاحية على المدى البعيد، فهي سرعان ما تتلاشى مع ترهّل بنية الحكم بمرور الزمن، وانتفاء الدافع إلى استمرار هذه المشاريع التي تتحول ميزانياتها المخصصة إلى مصدر للفساد والاختلاس.
عملية الانتقال هذه حافظت في الماضي على بقاء عرفي لبعض المناصب الحسّاسة في قبضة أجنحة معينة من الأسرة، كبقاء وزارة الداخلية لآل نايف، والخارجية لآل فيصل، والحرس الوطني لجناح الملك عبد الله متمثلاً في نجله متعب، بالإضافة إلى إبقاء أبرز نخب التكنوقراط المخضرمين الذين لا تُصنّف ولاءاتهم بين الأجنحة، الأمر الذي أنهاه الأمير الشاب محمد بن سلمان؛ إذ سعى منذ وصوله إلى إنهاء مراكز القوى التقليدية، واحتكار السلطة واختزالها في شخصه، سواء كان ذلك عبر عزل أبناء عمومته، أو الوجوه التقليدية من التكنوقراط الذين لم يشفع لهم ولاؤهم التام للأسرة المالكة، مثل من شملهم في حملات التصفية كأعضاء في البنية القديمة للدولة، لينشئ الأمير مؤسسات موازية تسمو على نظيرتها التقليدية التي أفرغها من صلاحيتها وقوتها الفعلية.

كشفت «اعتقالات الريتز» مدى هشاشة مؤسسات الدولة



بالإضافة إلى ذلك، قام بسلسلة من التعيينات لتشكيل ما يمكن أن يُطلق عليه، بعد تجاوز كبير، «فريقه السياسي». وهو عبارة عن أصحاب الأمير ومرافقيه وشركائه في مجالسه الخاصة، الذين - وهو من بينهم - لم يكونوا ليتخيلوا في أقصى أحلامهم قبل سبع سنوات الوصول إلى عرش الدولة، إلا أن القدر، بفعل قفزة خيالية في سلّم الحكم عبر توالي وفاة وليّي عهد في غضون قرابة عام واحد، حوّل هذا الحلم إلى حقيقة.

أمير الأمركة المدلَّل

لا يُعَدّ من التبسيط والاختزال تفسير الصراعات والسياسات داخل الجيل الجديد في الحكم السعودي في إطار المسائل الشخصية والغرائزية، بل على العكس، ربما بات من شبه الاستحالة تحليل العهد الجديد بشكل عقلاني واستراتيجي. فلأول مرة يصل عملياً إلى سدة الحكم فتىً من جيل أحفاد المؤسّس، وليس أي حفيد، بل أحد صغارهم في العمر، أي أحد متخرجي القصور الملكية الذين نشأوا في ظل مناخ فتحت لهم فيه حالة الترف والرفاهية أوسع الأبواب على الثقافة الغربية المعولمة المنتصرة والمهيمنة منذ عقود، والتي شكلت فكر الجيل الشاب بأكمله. إلا أن الموقع الطبقي لـ«سمو» الأمير وحاشيته جعلهم يعيشون في عالم موازٍ، وعليه يمكن فهم كل سياساتهم وسلوكياتهم في هذا الإطار. ولعل من المفارقة أن كل الصورة الغربية المرسومة لرئيس جمهورية كوريا الشعبية من التهور والمراهقة والعصبية تنطبق بحذافيرها على «أميرهم المدلل».
من المهم وضع جيل العهد السعودي الجديد في هذا السياق، الذي من الممكن من خلاله فهم غالبية تصرفات محمد بن سلمان وقراراته، ليس ابتداءً بالقفز الأعمى في الحضن الأميركي انطلاقاً من الفهم الهوليوودي لدوائر الحكم في الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، مروراً بالمنظور الاقتصادي النيوليبرالي المعلّب وحالة السُّكر بنموذج دبي «الفقاعي»، وصولاً إلى حالة من التصهين تكون على يمين «الليكود» نفسه.

لعبة العروش

شهدت المملكة في السنين الثلاث الماضية عملية هدم مدمِّرة لجميع الأعراف الملكية التي حكمت العلاقة بين مختلف الأجنحة، وتمثلت بحرص على وجود توافق عام على احترام المكانة الملكية للملك وسلطة ديوانه الملكي، بالإضافة إلى التوافق شبه الكامل على إبقاء خيط رفيع من الاحترام المتبادل، ولو في العلن فقط، والتكتم على أي خلاف، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على تماسك الأسرة الملكية ككل، والتحرك كجسم واحد. إلا أن الأمير الشاب قاد حملة شعواء أشبه بروايات بلاطات السلاطين وصراعها على كل من يشكل، ولو من بعيد، تهديداً لعملية وصوله إلى العرش، ولم يلتزم كسابقيه سلسلة أوامر التنحية والتصفية الناعمة التي تُختتم بصيغة «بناءً على طلبه»، الهادفة إلى الحفاظ على ماء وجه كل أمير أو مسؤول يُخلع من منصبه. بل أكثر من ذلك، تعمد محمد بن سلمان الإهانة العلنية واغتيال شخصية كل أبناء عمومته، من انقلابه على وليّ العهد السابق محمد بن نايف، ثم إظهاره في شريط مصور مبايعاً، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وصولاً إلى واقعة «الريتز كارلتون»، التي حاول عبرها تسديد ضربة قاضية في مختلف الاتجاهات.

ليلة الرابع من نوفمبر

عكست حملة الاعتقالات الجماعية لأمراء ومسؤولين ورجال أعمال في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، واحتجازهم في فندق «الريتز كارلتون» بالرياض، جوانب مختلفة من الواقع السعودي الجديد. الحملة، وإن تستّرت بعناوين دعائية مثل محاربة الفساد، إلا أنها كانت واضحة في دوافعها المتعلقة بالتشهير، وإنهاء أي دور أو نفوذ سياسي لكل الشخصيات المعتقلة، وأبرزها متعب بن عبد الله، الذي حاول والده ببطء وضعه على سلم العرش، لكن العمر لم يسعفه.
فبعد سويعات من عزل متعب من إحدى الوزارات السيادية، وهي وزارة الحرس الوطني، جرت عملية اعتقاله باتهامات بالفساد وصفقات عسكرية مشبوهة، ليجري احتجازه ومن ثم تخييره بين المحاكمة وبين التنازل عن جزء كبير من ثروته، الأمر الذي يعني تحجيم مكانته التي يكتسبها من ثروته، وكذلك إرثه المعنوي؛ لكونه ابن أحد الملوك السابقين، وبالتالي انتفاء تهديده المحتمل للسلطة الجديدة، لينتهي المشهد بإظهاره بشكل ذليل مصافحاً ومعلناً الطاعة.
لم تكن الحملة لتقف عند حد الإقصاء السياسي لأي مركز منافس للعهد الجديد من أفراد الأسرة المالكة، بل شملت كذلك أغلب «حيتان المال» الذين لم يكونوا تاريخياً بعيدين عن دوائر السلطة، بل على ارتباط عضوي بها، وفي مقدمهم رجل الأعمال الشهير الوليد بن طلال، ومالك مجموعة «إم بي سي» العملاقة وليد آل إبراهيم، لتتحول الحملة إلى عملية نزع لثروات طبقة التجار والبرجوازية في المملكة، بقيادة أجهزة الدولة.
ولعلّ المثير في الأمر، وما يعكس الضياع الاستراتيجي في آن، أن محمد بن سلمان، وتحت مظلة ما سماه «رؤية 2030» التي جعلت شعارها تحرير اقتصاد الدولة، وتبني أقصى السياسات النيوليبرالية من بناء بيئة استثمارية وإقرار خطط للخصخصة، ما فتئ يقود حملة ضد أبرز رجالات الأعمال، في ضربة قاصمة للقطاع الخاص، الذي يُقال في شعارات «الرؤية» إنه يجب أن يقود العملية الاقتصادية بدلاً من الحكومة. الحملة ضد رجال الأعمال بعثت برسائل هددت كل الطبقة البرجوازية في المملكة، التي شابها الذعر بعدما كانت تأمل في «الرؤية» فرصة ذهبية للإثراء والتوسع، خاصة أن ابن سلمان دافع عن قرار بيع شركة «أرامكو» النفطية بأن الحفاظ عليها هو «اشتراكية وشيوعية»، بما يعني إطلاق الخصخصة بشكل شامل، إلا أنّ من الواضح أنّ الأمير الشاب لا يقود حملته من منظور «تأميم»، أو رفد خزينة الدولة بأموال الفاسدين، بل من منظور «سلمنة» الدولة، أي التهام كل رؤوس الأموال وضمها إلى شركة والده وشركته، وهي الدولة!

دولة خاوية على عروشها

لعل من أهم الحقائق التي كشفتها «اعتقالات الريتز» - كما تسمى شعبياً - مدى هشاشة الدولة كمؤسسات وكيانات؛ إذ إن الحملة لم تواجَه بأدنى مقاومة من البنية البيروقراطية لكل مؤسسة بعد قطع رؤوسها. بل على العكس، كل عملية التلاعب التي جرت بين ليلة وضحاها لم تنتج إلا الصمت، وبالتحديد في كيانات كان يُعتقد طويلاً ارتباطها الهيكلي بشخص أو جناح، وفي مقدمها وزارة الحرس الوطني ذات التركيبة القبلية، التي دائماً ما كان يُصور ولاؤها التام لجناح الملك عبد الله، ليتكشّف أن تلك المؤسسة عبارة عن هيكل توزيع للريع، من دون أي ارتباط عقائدي يمكن أن يحرك أحداً ما دامت المنافع المادية مستمرة.
الأمر نفسه ينطبق على الشبكات الإعلامية كـ«روتانا»، التي أسسها الوليد بن طلال لتكون عميدة التوجهات الليبرالية جنباً إلى جنب مع نظيرتها «إم بي سي» لوليد آل إبراهيم. والاثنان يتهددهما اليوم المصير نفسه من الإنهاء السياسي والاقتصادي، بعد تعرض مؤسساتهما لعملية «التهام» تحت مظلة دولة ابن سلمان.
لأول مرة يختفي تماماً من مجال الحكم في المملكة أيٌّ من أصحاب السمو الملكي، لتقفز إلى واجهة الدولة وجوه من خارج الأسرة من أصحاب ابن سلمان وحوارييه، ولهم من القوة السياسية والإعلامية ما ليس لمعظم أمراء الصف الأول. وهذه القوة مستمدة من قوة شخص واحد، يريد جمع كل الأوراق السياسية والاقتصادية والأمنية بيده، ويطمح إلى ألا يترك شيئاً لأحد.





النيوليبرالية... سعودياً

لا يغاير منطلق ولي العهد السعودي في «سلمنة» القطاع الخاص منطلقات تطبيق الخطط النيوليبرالية في مختلف دول العالم العربي، حيث تحاول النخب التابعة للسلطات احتكار امتيازات اقتصاد السوق المتصلة بالمركز الاقتصادي الغربي. وضمن هذا السياق، أنهى محمد بن سلمان إقطاعيات أبناء عمومته المالية، وسعى كذلك إلى الاستيلاء على أموال كبار التجار، وأعلن أنه أطلق سراحهم ضمن تسويات مالية لم يُعلن تفاصيل أغلبها حتى الآن. لكن الاستيلاء على شركات هؤلاء، مثلما حصل لشركة «بن لادن» للمقاولات ومجموعة «إم بي سي»، هدف واضح لابن سلمان، يريد من خلاله أن يهيمن على منافع سياسة «انفتاح السوق» المعلنة، ناسخاً النموذج المسخ للاقتصاد الذي يفتح الباب للاستثمار الخارجي، مع الحرص على احتكار حركة رؤوس الأموال في دوائر احتكار محددة. وبالتالي، تقود فكرة تصفية البرجوازية المحلية، وفتح الأبواب للمستثمرين الأجانب، وبالذات لشراء حصص في «أرامكو»، إلى تثبيته نقطة وصل وحيدة بين الاستثمار الأجنبي والبيئة المحلية، فيمتلك بذلك كل أوراق القوة الداخلية، وتكون مصالح الشركات الغربية الكبرى المستثمرة في المملكة مرتبطة عضوياً به، ما يجعل الاستغناء عنه صعباً كما يظن.