بعض الكلام عن الانتخابات الرئاسية يخاصم بقسوة الحقائق الماثلة، كأنه ليست هناك أزمة عميقة في بنية شرعيتها. عندما تغيب عن الانتخابات الحدود الدنيا من قواعد المنافسة تفقد حرمتها واحترامها وتستحيل مباراة من طرف واحد ــ كل شيء مقرر سلفاً حتى المنافسون!
بقدر انضباط التنافس على القواعد الدستورية، التي تضمن النزاهة والشفافية واحترام كل صوت في صناديق الاقتراع، تضخ دماء جديدة في الشرعية ــ وإلا فإنها تتخثر بالشرايين. أمام أزمة شرعية الانتخابات، لا يصح تحت أيّ ذريعة تهوينها، أو الاستهتار بتداعياتها. كانت الذريعة الأولى لوم الأحزاب والتيارات السياسية على عجزها عن تقديم مرشح تجمع عليه وله حظوظ انتخابية جدية. تلك نصف الحقيقة، فمسؤولية القوى السياسية الرئيسية عن الوضع الذي وصلنا إليه ممّا لا يمكن إنكاره.
تفككت «جبهة الإنقاذ»، التي وفرت الغطاء السياسي لحركة ملايين المصريين في ٣٠ يونيو، بلا حيثيات مقنعة، أو متماسكة. بدا أغلب الأداء الحزبي مزرياً في ما يشبه التسابق على نيل نصيب ما من كعكة السلطة الجديدة.
في تلك الأيام استعرت تعبيراً أطلقه جمال عبد الناصر أمام محمد حسنين هيكل في الأيام الأولى لثورة ١٩٥٢، معلقاً على تدافع وزراء حكومة علي ماهر في حمل أطباق الطعام إلى الضباط الشبان أعضاء مجلس القيادة أثناء غداء على مركب نيلي: «هل هؤلاء باشوات أم سفرجية؟!». شيء من ذلك حدث في الأيام الأولى بعد ٣٠ يونيو.
كان الانهيار الأخلاقي والسياسي شبه كامل، بما ساعد على انهيار أحزاب عريقة من داخلها وأحزاب واعدة بالتسلّم الأمني لمقاديرها. النصف الآخر من الحقيقة أن تفريغ الحياة السياسية كان مقصوداً وممنهجاً. جرت تنحية ما هو سياسي لمصلحة ما هو أمني وإلغاء أي تنوع يضمنه الدستور. بالقدر ذاته اتسع نطاق التشهير الإعلامي بثورة «يناير» واغتيال شخصية أي صوت مختلف، فافتقد البلد مناعته وقدرته على صناعة التوافقات العامة بالاختيار الحر. هكذا مضت الأمور من تضييق إلى آخر، حتى بدا المسرح السياسي شبه خال، والأداء البرلماني ملتحقاً بالسلطة لا رقيباً عليها، وأحزاب المعارضة التي ترتبط بإرث «يناير» شبه محاصرة، وأجيال الشباب شبه يائسة. وهكذا تأسست «دولة التفويض» لا دولة الوسائل السلمية الدستورية لتداول السلطة. الحياة السياسية تنشط في البيئات الصحية التي تشجع على التعدد والتنوع واحترام حقوق المواطنين وحرياتهم. هنا ــ بالضبط ــ صلب الأزمة.
وكانت الذريعة الثانية أن إخراج المتنافسين المحتملين الجديين من السباق الرئاسي واحداً إثر آخر أفضى إلى حملات لا تحتمل ضراوتها تؤذي الدولة وصورتها، كما تستدعي ــ لاستكمال الشكل ــ البحث عن مرشح ما يخسر أمام الرئيس الحالي، حتى يقال إن هناك انتخابات. وفق هذا النوع من التفكير البدائي الساذج اندفعت اللعبة إلى ما يحطم كل صورة، أو يوفر أي احترام.
باليقين أن تجرى الانتخابات بمرشح وحيد أقل سوءاً من استجلاب منافس محسوب على أحزاب هامشية، لا يكاد يسمع أحد باسمها، وبتزكيات برلمانية لازمة للترشح وفرتها جهات في الدولة من دون أن يبذل أي مجهود، أو أن يكون له أي دور كـ«كومبارس صامت».
غياب العقل السياسي مأساة كاملة.
للسياسة أدوارها وللأمن طبيعته. خلط الأدوار سوف يدفع بالبلد إلى منزلقات أخطر لا يمكن تجنّبها، أو تحمّل نتائجها.
وكانت الذريعة الثالثة أن استقرار البلد يتطلب تجديد ولاية الرئيس لدورة ثانية، ولو من دون انتخابات، كما لو أنها زائدة عن الحاجة ولا لزوم لها لضخ دماء جديدة في الشرعية الدستورية.
الاستقرار مطلب مؤكد في بلد منهك لا يتحمل اضطرابات جديدة، لكن كأي مطلب على مثل هذه الدرجة من الأهمية والحساسية، فإن له اشتراطاته واستحقاقاته، وليس من بينها تعطيل الاستحقاقات الدستورية واعتبارها عملاً شكلياً.
كذلك، فإن الاستقرار مسألة توافقات وطنية تتأسس على حرية التعبير والتنوع. لا يماري عاقل واحد في أن مصر تحت الخطر الداهم بالنظر إلى حزام الأزمات التي تعترضها من إرهاب لا تبدو نهايته قريبة وأوضاع إقليمية حرجة قد تسوى بعض ملفاتها على حساب أمنها القومي، كنزع شمال سيناء وفق ما يطلق عليه «صفقة القرن»، إلى «سدّ النهضة» الأثيوبي وأزمة مياه ضاغطة لا يعرف أحد مدى الضرر الذي سوف تلحقه بقدرتها على إنتاج الغذاء.
بقدر تماسك البلد وثقته بنفسه يمكنه مواجهة حزام الأزمات بثقة. الكلام العشوائي عن الاستقرار يؤسّس لفوضى ضاربة.
إذا سدّت القنوات السياسية وساد اليأس المجال العام من أي إصلاح ممكن، فإن الكلام عن الاستقرار يخسر قضيته وتفتح أبواب المجهول على مصاريعها.
وكانت الذريعة الرابعة أن أي انتخابات تتوافر فيها شروط التنافس الجدي قد تمثل ثغرة لعودة جماعة «الإخوان» إلى الحياة السياسية. الكلام ــ بنصه ومنطقه ــ أقرب إلى إعلان فشل في ترسيخ أوضاع دستورية حديثة تمنع أي احتمال مستقبلاً للتحول إلى دولة دينية. الإفراط في استخدام تلك الذريعة لتبرير تقييد الحريات العامة يؤسّس لعودة الجماعة.
هناك ثلاث كتل رئيسية في المجتمع المصري. أولاها كتلة الاستقرار، وهذه تخشى عواقب التغيير المفاجئ على أمنها وأملها في إصلاح الحال. إذا أجريت انتخابات حقيقية، فإن سلوكها التصويتي يصب في مصلحة الرئيس الحالي.
وثانيتها كتلة الغضب، وهذه تجأر بالشكوى السياسية والاجتماعية معاً، لكنها غير منظمة وتفتقد الغطاء السياسي الجامع، وترفض أغلبيتها أي حوار مع «الجماعة» ما لم تعتذر عن خطاياها وتنبذ العنف والإرهاب وتلتزم الدستور الذي يمنع إنشاء الأحزاب على أساس ديني، رغم أن الدولة لا تلتزم ذلك النص القاطع.
وثالثتها كتلة النار من جماعات عنف وإرهاب، فإذا ما سدّت القنوات السياسية والاجتماعية وشاعت روح اليأس، فإنه قد يحدث ــ بقوة التداعيات ــ اقتراب غير مباشر بين كتلتي الغضب والنار بمنطق فليكن ما يكون إذا لم يكن لنا كرامة تصان أو حقوق ترتجى.
هذا السيناريو المحتمل ينسف من الجذور ردف الاستقرار بتسويغ الانتهاكات. وكانت الذريعة الخامسة لدرء أيّ تداعيات منتظرة وصف دعوات المقاطعة بأنها «انقلاب على الدستور».
بالتداعي الطبيعي ليس في وسع أحد أمام هذا النوع من الانتخابات أن يتوقع أي إقبال له قيمة على لجان الانتخابات، سواء دعت المعارضة إلى المقاطعة أو لم تدعُ.
بأثر غياب أي تنافس سوف تبقى الأغلبية الساحقة من المصريين في بيوتها، من دون أن تكون قد تأثرت كثيراً بنداء «خليك في البيت» شعاراً للمقاطعة الذي استلهمته المعارضة من عنوان برنامج تلفزيوني لبناني قديم يحمل الاسم نفسه.
مما يُلفت الانتباه أن الذين يتهمون خصومهم بالانقلاب على الدستور هم أكثر من استهتروا به وانقلبوا على أيّ قيمة انطوت عليها نصوصه، وبعض النواب يتأهبون من الآن لطلب تعديل الدستور بحيث تمدد الولاية الرئاسية إلى ست سنوات كحكم انتقالي لمرة واحدة.
ذلك النوع من التفكير يتلاعب بالشرعية الدستورية من دون أن يضع أيّ اعتبار لحق البلد في الاستقرار على قواعد حديثة تضمن الانتقال السلمي للسلطة، وهو ما لا يؤسّس لأيّ مستقبل مأمون.
* كاتب وصحافي مصري