في سياق تدهور مأسوي للظروف الاقتصادية والاجتماعية، زادته تعقيداً تدابير التقشف المتضمنة في قانون المالية لعام 2018، أحيت تونس قبل نحو عشرة أيام الذكرى السابعة للثورة، والتي رافقها أسبوع من الاحتجاجات.
في هذه المقابلة مع «الأخبار»، تعود هالة اليوسفي إلى الأسباب الهيكلية لتكرار الاحتجاجات الاجتماعية في البلاد، كما تحلل المنظورات السياسية لهذا التحرك. اليوسفي، المتابعة عن قرب للتطورات، تُعدُّ وجهاً أكاديمياً تونسياً بارزاً، فهي أستاذة محاضرة في «جامعة باريس ــ دوفين»، متخصصة في علم اجتماع المنظمات، وسبق لها أن نشرت في عام 2015 كتاباً بعنوان: «الاتحاد العام التونسي للشغل: شغف تونسي»




■ بعد سبعة أعوام على الثورة التونسية، نقف على نتائج متواضعة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. ما هي العوامل المسؤولة عن هذا الوضع؟

عدة عوامل تقف خلف هذا الوضع. بعضها (ذات طبيعة) هيكليّة، فيما ترجع عوامل أخرى إلى الظرف السياسي الحالي.
بالنسبة إلى العوامل الهيكلية، فإنّها تتعلق باختلالات في الاقتصاد التونسي القائم على منطق ريعيّ ويستند إلى قطاعات خدمات، مثل السياحة أو النسيج، ذات قيمة مضافة ضعيفة وتشغّل أيدي عاملة ليست مؤهلة جيداً. ويأتي ذلك في وقت أنّ ما تحتاج إليه البلاد هو إعادة صياغة الخيارات الاقتصادية بطريقة تسمح بخلق فرص عمل للعديد من العاطلين من العمل المتخرجين في الجامعات، وتقليل الفوارق بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية.
هذه الاختلالات الهيكليّة تعززها بشكل واسع اتفاقات «أورو ــ متوسطية» للتبادل الحر، والتي يُزمع مواصلتها وتعميمها على قطاعات أخرى من خلال المفاوضات الجارية لـ«اتفاقات التبادلات الحرة الكاملة والمعمقة»، وذلك من دون تقويم نقدي حقيقي. إنّ التدابير الليبرالية وسياسة التقشف للحكومة الحالية، من دون وجود استراتيجية اقتصادية واضحة حقيقية على المدى الطويل (باستثناء تلك التي تخضع لأوامر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، لا تُقدِّمان أي بديل اقتصادي قابل للتطبيق وقادر على علاج علل الاقتصاد التونسي. وهكذا، فإن التبعية الاقتصادية للرأسمالية العالمية تُحفّز تشابك المصالح الاقتصادية للنخبة المحلية مع المصالح الخارجية، ما يسمح بالتالي باستمرار آليات النهب والفساد والنهج الاقتصادي الريعي.
أما على المستوى السياسي، فعلى مدار سبعة أعوام قللت المعركة السياسية، بشكل واسع، من أهمية وضع إصلاحات اقتصادية هيكلية... ورغم أنّ التحالف الاستراتيجي بين النهضة ونداء تونس سمح بشكل من التداول السياسي السلمي للسلطة، فإنّ تنامي الفساد وغياب نظام قضائي مستقل وعودة الرموز السابقة لنظام بن علي إلى السلطة من خلال قانون المصالحة المصوّت عليه أخيراً، إلى جانب غياب معارضة سياسية قوية، تشكّل جميعها عوامل لم تفاقم الأزمة الاقتصادية فحسب، بل الغضب الاجتماعي أيضاً. ولا يُنسى طبعاً الظرف الإقليمي المتوتر.

■ رغم الاضطرابات الاجتماعية التي شهدناها عامَي 2016 و2017، فإنّ الحكومة التونسية بقيت على توجهاتها الليبرالية، وقد عززتها أيضاً بقانون المالية الحالي الذي كان السبب في الاحتجاجات الجديدة. كيف تفسرين ذلك؟

منذ انطلاقة الثورة، لم تتوقف التحركات والاحتجاجات الاجتماعية في جميع أنحاء البلاد. الحكومة التي لها أولاً توجه ليبرالي، وجدت نفسها أمام ظرفين متناقضين: من جانب، واقع المالية العامة الذي وضع البلاد في حالة تبعية للمموّلين (على سبيل التوضيح، فقد ربط صندوق النقد الدولي خطه الائتماني الأخير، البالغ 2.4 مليار يورو على 4 أعوام، بالكفاح ضد العجز العام. وإنّ هذه المهلة القصيرة المحددة تدفع نحو اتخاذ تدابير اقتصادية عاجلة تتناقض وضرورة إيجاد استراتيجية حقيقية للإصلاحات على المدى الطويل). ومن جانب آخر، فإن اتساع التفاوت بين الأغنياء والفقراء يعني أن الضغوط الممارسة على وجه الخصوص على الطبقات الشعبية (التي لا يتوقف واقعها عن التدهور) ليس مقبولاً، بل إنّ الدعوة إلى مزيد من الصبر والتضحية لم تعد تلقى آذاناً صاغية.

إنّ الدعوة إلى مزيد
من الصبر والتضحية
لم تعد تلقى آذاناً صاغية

أخيراً، لم يسمح ضعف أحزاب المعارضة بصياغة مقاومة حقيقية لهذه التوجهات الليبرالية التي سيكون تأثيرها كارثياً على البلاد.

■ كيف تقرئين توسع وتجذر حركة الاحتجاج الاجتماعي، والتي تحوّلت إلى أعمال شغب عنيفة؟ هل الحركة عفوية، أم أن المحتجين ينتمون إلى مجموعات نقابية أو تشكيلات سياسية معارضة؟

نُظّمت التجمعات الأولى استنكاراً لقانون المالية في بداية الشهر الجاري، بواسطة حملة «فيش نستناو» (ماذا ننتظر) (والمكوّنة بغالبيتها من) شباب مقربين من «الجبهة الشعبية». كان الرهان على توعية التونسيين بأحكام قانون المالية 2018 وعلى إبطال الإجراءات الضريبية وزيادة الأسعار الناجمة عنه. وقد وجدت هذه الحملة صدى لدى قطاعات كبيرة من الشباب التونسي، نظراً إلى ارتفاع تكلفة المعيشة وغياب العدالة الاجتماعية وانعدام أفق سياسي واقتصادي واضح، إضافة إلى الشعور بالتعرض للخيانة من قبل طبقة سياسية تبدو مركّزة على حسابات سياسية ضيقة. ظهرت حركات احتجاجية عفوية في محافظات أخرى حول تونس العاصمة. وفي بعض المناطق، مثل مكناسي، دعت الاتحادات المحلية التابعة لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، إلى التظاهر من دون أن يكون هذا الحراك مؤطراً على صعيد وطني من قبل الاتحاد.
يمكن القول إنّ الحركة الاحتجاجية بلا قائد ومن دون هيكلية سياسية تنظيمية قادرة على التوجيه أو التحكم. وتُفسَر راديكالية الحراك بخيبة الأمل الشاملة وفقدان الثقة المتزايدة بشكل كبير لدى التونسيين حيال السياسات، ولكن أيضاً برفض الحوار والمقاربة الأمنية المتبعة من قبل الحكومة. عودة الوجود المتزايد لقوات الأمن واتباع استراتيجية قمعية، تشرح تصاعد العنف ولا سيما بعد وفاة خمسي اليفرني متسمماً بالغاز المسيل للدموع وفق سلطات مدينة طبربة (ولاية منوبة).

■ كيف تشرحين موقف حزب مثل «النهضة» الذي يشارك في التحالف الحكومي ويدعم سياسة رئيس الوزراء يوسف الشاهد؟

لقد اتهم «النهضة» بعض الأحزاب السياسية اليسارية الراديكالية بأنها أرادت الاستفادة من مطالب المواطنين من أجل الحث على الفوضى والنهب والتخريب، وهذا في إشارة إلى «الجبهة الشعبية». إنّ خطاب «النهضة» لا يختلف عن خطابات التشكيلات السياسية الأخرى في الحكومة، التي أسرعت نحو خطاب قديم وسهل سبق أن استخدمه بن علي في السابق من أجل حجب الشرعية عن الحركات الاجتماعية وتشويه سمعة اليسار الراديكالي الذي أظهر دعمه للحركة الاحتجاجية.
على النقيض، المثير للدهشة في خطاب «النهضة» الذي يشكل جزءاً من الحكومة، وبالتالي مسؤول عن سياسات الأخيرة أيضاً، هو التحايل وبلا أدنى حياء من خلال دعوة الحكومة إلى سماع مخاوف المواطنين والاستجابة لمطالبهم.


■ ما هو الدور الذي قام به «الاتحاد التونسي العام للشغل» في سياق هذه الأزمة؟

تاريخياً، وفي وقت الأزمات، يتبنى الاتحاد ولا سيما البيروقراطية النقابية، موقف «قوة التوازن» مثلما يدّعي النقابيون بإصرار. يقوم هذا الموقف على تأرجح منتظم بين الضغوط والمفاوضات مع الحكومة. لو أنّ علاقة القوة تميل إلى جانب الحركات الاجتماعية مثلما حدث في عامَي 1984 و2011، فإن الاتحاد سينتهي بالانحياز للفاعلين في الحركات الاجتماعية. أما غير ذلك، فإنّ الاتحاد مستمر في الحفاظ على قنواته التفاوضية مع الحكومة. في هذه الأزمة، برغم أنّ بعض الاتحادات المحلية دعمت الحراك، فإنّ الاتحاد العام التزم عموماً بموقف الحذر: دعم المطالب الاجتماعية للمحتجين واستنكر أعمال العنف التي شهدتها التظاهرات (انظر بيان الاتحاد في 11 من الشهر الجاري).
هذا الموقف يُفسَّر بأمور أخرى: الدعم المقدّم من الاتحاد إلى «حكومة الوحدة الوطنية»... ومن ناحية أخرى، فإن الاتحاد يُعِدُّ لجولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية مع الحكومة، والتي يُقدّر بأنها صعبة. وهذا يُفسِّر أيضاً مواقفه المتحفظة.

■ في ظل الرد الأمني والقمعي، لماذا لم يُقدَّم أي مقترح سياسي؟ هل تونس على وشك استئناف حقبة نظام بن علي؟

النظام الاستبدادي لبن علي اعتمد في الأساس على آلة بوليسية قمعية متشابكة مع ممارسات مفياوية على رأس السلطة، الأمر الذي عمم التعسف والفساد. اليوم، وحتى وإن كانت هناك عودة لرموز نظام بن علي لتصدر الساحة، وكذلك عودة الممارسات البوليسية القمعية، إلا أنه لا يمكن الحديث عن إحياء مطابق لنظام بن علي.
على النقيض، ما يمكننا أن نراه هو أنّ المحسوبية التي كانت متركزة في يد أُسرٍ قريبة من بن علي، تتسع من خلال تعميم ممارسات نهب يسهّلها تفسخ (السلطة) والحرب بين العشائر السياسية، سواء في داخل التشكيلات السياسية التي تحكم البلاد، أو في ما بينها.
هذا الواقع السياسي الجديد يتشابك أيضاً مع تنظيم العلاقات الاجتماعية، كما مع جهاز الدولة، ويشمل جميع الدوائر الاقتصادية للبلاد، بما فيها دوائر الاقتصاد الموازي (سوق المخدرات وتهريب السجائر والكحوليات وتجارة السلاح). من خلال هذه الزاوية، تظهر الحكومات المتعاقبة والمنهمكة بصراعات بين عشائر المافيا على قمة السلطة وبضغط الممولين، عاجزة عن تقديم أدنى بديل اقتصادي وسياسي فعال.

■ هل يوجد اليوم عرض سياسي (offre politique) يحظى بصدقية لتحقيق أهداف الثورة؟ وما هو البديل المقترح؟

اليوم، يمكن القول إنّه لا يوجد عرض سياسي ذو صدقية أو بديل قابل للتطبيق بعيداً عن الحلول الترقيعية أو التكتيكات المحكومة بالظرفية. ضعف الأحزاب السياسية للمعارضة، والناجم عن نظام استبدادي دام لأكثر من 50 عاماً، يُعقِّدُ المهمة بلا شك.
من خلال ديناميكيتها، تُقدِّم التحركات الاجتماعية بانتظام فرصة فريدة للسياسيين لإعادة إفراز شكل جديد لممارسة السياسة. لكن هذا السياسي القادر على استيعاب أهمية المرحلة ليس موجوداً في الوقت الحالي! مع ذلك ورغم هذا الانسداد، تتيح الديناميكية وحيوية المسار الثوري وصعود جيل جديد من الشباب كان يبلغ من العمر 10 أعوام حينما اندلعت الثورة، أملاً بأن الأفق السياسي لتونس، على المدى الطويل، سيتحرر من ورثة النظام القديم وسيحدده أبناء الثورة.