جنين ــ الأخبارأُزيل الستار عن العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة جنين، شمال الضفة المحتلة، بعد ليلة حامية وعقب سلسلة من تضارب الأنباء حول النتائج وهوية الشهيد، ليظهر أن العدو الإسرائيلي، الذي لم يغب عنه «كابوس جنين»، مُني بإخفاق جديد وكبير، بعدما لم يستطع الوصول إلى قائد خلية عملية نابلس الأخيرة التي قتل فيها مستوطن ــ حاخام قبل نحو أسبوع، وكما يبدو لم يصل إلى عدد آخر من أفراد الخلية الذين انسحبوا من موقع الهجوم.

ففي اقتحام ضخم، كان الهدف منه تصفية الموجودين أو اعتقالهم بالحد الأدنى، ما لبث أن تحول الهجوم إلى كمين مقلوب، بعدما تبين أن المقاومين اكتشفوا دخول مجموعة من وحدة مستعربين خاصة («يمام» التابعة لـ«حرس الحدود») إلى بيت عائلة جرار، في وادي برقين في جنين. وقعت الوحدة في كمينها، وأصيب اثنان من القوات الخاصة، أحدهما بجراح خطيرة وفق اعتراف إعلام العدو، فيما استشهد أحمد إسماعيل جرّار (31 عاماً) الذي غطّى كما يبدو على انسحاب البقية.
«جنين لا تستسلم أبداً»، وهذا ما ثبت من ساعات العملية الطويلة، كما لم يخطر ببال كثيرين أن أجيالاً وُلدت بالتزامن مع اتفاقية أوسلو، وكان أبناؤها أطفالاً في الانتفاضة الثانية، يواصلون اليوم امتشاق السلاح رغم اختلاف الظروف وحالة «اللاحرب» السائدة في الضفة الغربية. من جانب آخر، شكّلت عملية نابلس، التي يتهم العدو بتنفيذها شباباً من جنين، تحولاً لافتاً في مسيرة المدينة خلال السنوات الأخيرة، وخاصة أن جنين لم تُشارك بفعالية في المقاومة الشعبية كباقي المحافظات الفلسطينية، نظراً إلى ندرة نقاط التماس والاحتكاك مع الاحتلال فيها. ومع ذلك، ها هي تضع بصمة دامغة في الرد على القرار الأميركي بشأن القدس، والتحولات الخطيرة التي يُجريها العدو، وذلك عبر عملية هجومية سريعة وغير تقليدية نفذها مقاومون منها في جنوب غرب نابلس، ثم تصدّ نوعي للاقتحام أمس.

الاشتباك هو الأكبر
في المدينة منذ عملية
«السور الواقي» عام 2002


الهجوم الإسرائيلي بدأ قرابة منتصف ليلة الخميس، عندما توجهت الوحدة المتخصصة في مكافحة أعمال المقاومة والاغتيال لتصفية مسؤول عملية نابلس المتهم لديها، أحمد نصر جرار، وهو ابن عم الشهيد أحمد إسماعيل جرار، فحاصرت منزل والده الشهيد القسامي نصر جرّار، لكن الاشتباك انتهى في دقائق معدودة، بعد بدء تسريباتٍ إسرائيلية تفيد بوقوع إصابات في صفوف الجنود المهاجمين.
مع ذلك، استمر وجود العدو حتى ساعات الفجر بعدما قرر الاحتلال في إجراء انتقامي هدم ثلاثة منازل تعود إلى العائلة، ثم أعلنت مصادر إسرائيلية وجود شهيد واحد واعتقال اثنين من أفراد الخلية لم تُكشَف هويتهما بعد، فيما لا يزال مصير الرابع ــ أو الخامس ــ مجهولاً. وبعدما وقعت القوة الخاصة في الكمين، استعان الاحتلال بنحو ثلاثين آلية وجرافة عسكرية، في ظل إعلان الحي المستهدف «منطقة عسكرية مغلقة»، ثم شاركت الطائرات بصورة لافتة في تحليق مكثف، علماً بأن التقديرات الإسرائيلية، وفق القناة العبرية الثانية، أن ما بين ثلاثة إلى خمسة مقاومين كانوا في المنطقة وتوزعوا على عدد من المنازل.
في السياق، أكدت مصادر من عائلة المُطارَد جرّار، في حديث إلى «الأخبار»، أن الأخير تمكن من مغادرة المنزل قبل نصف ساعة من بدء العملية العسكرية، وعندما استُهدف المنزل بصاروخ هَدم جزءاً منه، لم يكن أحمد موجوداً داخله. مع ذلك، لم يُعرَف على وجه الدقة عدد من خاضوا الاشتباك مع القوات المقتحمة، أو هل كان المقاوم المُنسحِب كامناً بجوار المنزل أم غطّى مقاومون آخرون على انسحابه، أم أن الشهيد أحمد إسماعيل خاض الاشتباك وحيداً.
رغم فرض الإعلام العبري تعتيماً كبيراً حول مجريات العملية، قال جيش الاحتلال إن العملية العسكرية لم تحقق الهدف المرجو منها، إذ لا يزال أفراد في الخلية «طلقاء». والشهيد أحمد إسماعيل جرار وصفه الاحتلال بأنه «مساعد متعاون مع خلية عملية نابلس»، فيما تقول المصادر المحلية إنه كان طالباً جامعياً ويعمل سائق شاحنة، ولم يكن عنصراً في أجهزة أمن السلطة كما أشيع أيضاً.
ومن المهم الإشارة إلى أنه تخلل العملية العسكرية من بدايتها حتى نهايتها مواجهات شعبية بالحجارة في عدة أماكن في جنين، وكانت المواجهات الأعنف عند دخول التعزيزات العسكرية برفقة الجرافات إلى المدينة، وكذلك عند انسحاب القوات من منازل آل جرار، كما استهدف الشبان قوات العدو بعددٍ من العبوات الناسفة المصنعة محلياً المسماة «الأكواع» صباحاً عند الانسحاب.
ويتضح من المتابعة لتداعيات العملية في جنين أن قوات العدو أخفقت إخفاقاً كبيراً، بما أن الشخص المستهدف نجا رغم كثافة النيران وتحليق الطائرات واستعمال صواريخ لقصف المنزل، ثم هدمه بالجرافات عندما كان العدو لا يزال يظن أنه موجود فيه، وبقي ينادي عليه لساعات طويلة: «أحمد سلّم حالك»، ثم عمل على البحث في الأنقاض بعد انتهاء الاشتباك. ومن أوجه الإخفاق، وفق ما قال مراسل القناة العبرية العاشرة، أوري هلر، إن اكتشاف أمر الوحدة الخاصة أدى إلى عملية «قاسية ومن مسافة قصيرة، وأطلق مقاومون النار من مسافة قصيرة على الجنود»، وليس هذا ما هو معتاد في مهمات القوات الخاصة، إضافة إلى أن طول العملية (أكثر من 10 ساعات) يعكس صعوبة الموقف وتحقيق الأهداف. وجاء هدم البيوت في رد فعل انتقامي واضح دل أيضاً على القهر من الإخفاق، فيما أخرج الجنود أفراد العائلات من النساء والأطفال قبل الهدم واحتجزوهم وحققوا معهم وضغطوا عليهم. وإن مثّل هدم البيوت جزءاً من تكتيك عسكري، لكنه لا ينفصل عن سياسة «العقاب الجماعي».
من جهة أخرى، جاء الارتباك في إعلان اسم الشهيد، بين أحمد نصر وأحمد إسماعيل (جرار) بناء على إعلان رسمي لوزارة الصحة الفلسطينية، التي تلقت النبأ من «الارتباط المدني» الفلسطيني، الذي كما يبدو تلقى الخبر من «الارتباط الإسرائيلي»، والأخير قد يكون قصد بذلك أهدافاً عدة تتعلق بإشعار المطارد بالأريحية بعد سماع إعلان استشهاده حتى يظهر، أو إرباك الموقف لدى العائلة والمجموعة المطلوبة. كذلك، تفجر النقاش حول دور كاميرات المراقبة «الفلسطينية» في مساعدة مخابرات العدو على حصر نطاق التحقيق واكتشاف الخلية بسرعة (راجع العدد ٣٣٧٢ في ١٧ كانون الثاني)، إذ قادتها الكاميرات إلى منطقة جنين، حيث اكتشف مكان السيارة المحروقة قرب قباطية.





أحمد على خطى أبيه



يبدو أن المُطارَد أحمد نصر جرار فعلها في 2018 ونجا تماماً مثل والده عام 2001، بل في البيت نفسه وخلال ظروف شبيهة، فقد تمكن الشهيد نصر من اكتشاف وحدة خاصة قدمت لاستهدافه، فباغتها قاتلاً اثنين منها، ثم نجح في الانسحاب من المكان.
والشهيد نصر أحد قادة «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، في شمال الضفة المحتلة خلال انتفاضة الأقصى الثانية، كما نشط في محور جنين ومعركة مخيمها، لكنه أصيب عام 2001 بجراح خلال زرعه عبوة ناسفة قرب بلدة قباطية، فبُترت قدماه وإحدى يديه. مع ذلك، بقي نصر مستمراً في مشوار المقاومة يحمل البندقية بيدٍ واحدة وعلى كرسي متحرك، حتى حاصرت قوات الاحتلال منزلاً يتحصن فيه مع مقاومين من «القسام» في مدينة طوباس (شمال)، فطلب من رفاقه الانسحاب وغطّى عليهم ليستشهد وينسحب بقية المقاومين بسلام، وهو ما دفع صحيفة «معاريف» الإسرائيلية إلى وصف أحمد ابنه بأنه من «الجيل الثاني للإرهاب».