عاد محمد أخيراً إلى الرقة بعدما قضى ستة أشهر في مخيم النزوح قرب بلدة عين عيسى شمال المدينة. كان يحاول الخروج من المدينة مع صديقه حين اشتدت المعارك، لكن استهدفهما قناص، فنجا من الموت فيما قضى صديقه برصاصة. لم يكن بوسعه حمل جثته. فور دخوله الرقة، ذهب إلى مكان استهدافهما باحثاً عن جثة صديقه، فوجد ما بقي منها في المكان، ثم دفنها.
يقول محمد: «ظليت عايش كابوس الخروج من المدينة واللي جرى معي، لم نفترق خلال أيام الحصار، وكنا نتنقل من بيت إلى آخر كلما اقتربت المعارك من مكاننا، وبعد ما خلص الأكل والمي قررنا الخروج من المدينة، كان القناص يرصد تحركنا دون أن ندري، وفجأة سقط صديقي على الأرض مضرجاً بدمه، ونجوت بأعجوبة».
ليس محمد وحده، إنما عشرات المدنيين ممن عادوا إلى المدينة، ما زالوا يبحثون عن جثث أقاربهم المدفونة تحت ركام البنايات، وهم يحاولون إزالة ما يمكنهم من حجارة وتراب ويخشون انفجار لغم أو قنبلة، لكن الأنقاض أثقل من أن تحركها أجساد نحيلة وأياد متعبة أضنتها الحرب والنزوح والجوع.
وقضى عشرات المدنيين السوريين بقذائف «الحرية والديموقراطية» التي رمتها الطائرات الأميركية، والمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ التي دكت بها «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) المدنيين الآمنين، كي «تحرر» الرقة من تنظيم «داعش»، لكن النتيجة: قدمٌ هنا، ويدٌ هناك، وما زال الأهالي يبحثون عمَّا بقي من أشلاء أقاربهم.

لم تنجح محاولات التوسل لـ«مجلس قسد» من أجل
استخراج الجثث ودفنها

يُضيف محمد: «كان كل همي بعد نجاتي العودة إلى المدينة ودفن جثة صديقي، وتمكنت من ذلك بعد أربعة أشهر، قبل ذهابي لتفقد بيتي رحت أفتش عن جثته ووجدت ما بقي منها ودفنتها حسب الشريعة الإسلامية».

«تجارة» إزالة الأنقاض

ما زالت جثة دكتور اللغة العربية عبد الجليل العلي وزوجته تحت الأنقاض، وكذلك جثة دكتور القانون إبراهيم الكراف، وجثتا الطبيبين قيس السيد أحمد، وفؤاد العجيلي؛ لم يتمكن أهاليهم من إخراج جثثهم حتى الآن. وقبل مدة، حصل «مجلس قسد» المدني ــ أو (ما يُسمى «مجلس الرقة») ــ على عشرات الآليات الثقيلة المقدمة من الولايات المتحدة وبعض دول «التحالف»، فقسمت المدينة إلى عدد من القطاعات، وتوزع العمل فيها على منظمات عالمية تولت مهمة إزالة الأنقاض، لكن تلك الآليات تنحصر مهمتها في ترحيل الأنقاض من شوارع المدينة وساحاتها، ولا يشمل عملها ترحيل أنقاض البيوت والبنايات المدمرة.
استجدى الأهالي «مجلس قسد» لمساعدتهم في إزالة الأنقاض وإخراج الجثث، لكن من دون جدوى، فوجدوا ضالتهم عند سائقي الآليات. يقول خليل أحد مواطني الرقة: «لم تُفلح توسلاتنا للمسؤولين من أجل إخراج الجثث، لكن في النهاية الدراهم كالمراهم، مثل ما نقول، دفعنا للسائقين وبدأوا يساعدونا بترحيل الأنقاض، والدفع يتراوح بين 5000 و10000 ليرة حسب كمية الأنقاض».
لم يحل ذلك المشكلة نهائياً لأن هناك بنايات كثيرة مسوّاة بالأرض وتحتاج إلى آليات ثقيلة وكبيرة كي تستطيع رفعها وإزالتها. ووفق تصريحات سابقة لعمر علوش، رئيس «لجنة العلاقات العامة في مجلس قسد»، فإن «من الصعوبة تحديد جدول زمني لإزالة الأنقاض نتيجة الدمار الكبير في الرقة».
وقبل رحيلهم، حفر مسلحو «داعش» خنادق كثيرة في المدينة على ضفاف نهر الفرات وفي الملعب الأسود، وفي حديقة السور، والجامع القديم، وخصصوها للمدنيين المحاصرين كي يتسنى لهم دفن ضحاياهم الذين قضوا جراء الاقتتال الدائر في المدينة. دفن عشرات الناس موتاهم في تلك المقابر، إضافة إلى الحدائق والبيوت، كان طريق مقبرة «تل البيعة» (مقبرة الرقة الرئيسة) مفخخاً ومغلقاً فلا يمكن الوصول إليها، لذلك دفنوا ضحاياهم بـ«الطمر» ومن دون أي مراسم.
يقول حمود الأحمد: «استهدفت طائرة أخي الأكبر وابن أختي وابن عمي وهم يقفون أمام البيت، كانت مجزرة مروعة راح ضحيتها أربعة أشخاص غيرهم، بينهم طفلان، وفقد أحد المارة بصره بسبب الشظايا، جمعت الأشلاء ونقلتها بعدما غادرت الطائرة إلى حديقة الجامع القديم ودفنتها، وما إن عدنا إلى المدينة حتى ذهبنا وأخرجنا الجثث ودفنّاها في مقابر العائلة بتل البيعة، كان الأمر صعباً لكنه محتوم ولا خيار لنا سوى القبول بالقدر».
مع ذلك، لا يعرف أغلب الأهالي مصير موتاهم الذين قضوا في مستشفيات «داعش» الميدانية، ومن كانوا موتى في براد المستشفى الوطني، وهم حتى اللحظة يعانون لوعة الفقد والمصير المجهول للجثث.

«بابا قسدويل»

هكذا، «حررت» أميركا الأهالي في الرقة من كل شيء، بيوتهم وأموالهم وملابسهم وألعاب أطفالهم، وحتى ذكرياتهم، فلم يعد لديهم أي شيء يُشعرهم بإنسانيتهم سوى الوجع المزمن الذي خلفته الحرب.
وأفاد مدنيون عادوا إلى المدينة المدمرة بأنهم يعانون من جفاف في الحنجرة وحرقة بالأنف والعينين، وأكدوا أن الهواء ملوث ورائحة الجثث والبارود والقذائف ما زالت قوية. وقد أكد أطباء أن هذه الحالات طبيعية نتيجة تلوث الهواء بغازات القنابل والألغام، وخاصة أن الرقة تعرضت للقصف بالقنابل العنقودية. تراجيديا الموت المنتشر لم يكن ينقصها سوى رجال تركوا سلاحهم برهة وارتدوا زي «بابا نويل»، فحملوا أكياسهم يدورون أمام الكاميرات بحثاً عن طفولة مفقودة لم يعد لها أي وجود حقيقي حتى في نفوس الأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة ويعيشون في خيم بدائية.
يقول ناشط مدني من الرقة يعمل في مجال الدعم النفسي: «نسي الأطفال ألعابهم، هم يعرفون اليوم أنواع الطيارات من أصواتها، ويميزون بين الصواريخ والقذائف. فما شاهدوه منها خلال سنوات الحرب الطويلة كان كفيلاً بأن يُنسيهم أنهم أطفال، وأن مكانهم الطبيعي هو على مقاعد الدراسة، لكن أين هي تلك المقاعد؟».
يطوف «بابا قسدويل» في المدينة باحثاً عن أطفال أو من عاد منهم من مخيمات النزوح. يحمل كيساً، لكن هل سيُعيد ذاك الكيس الآباء إلى أطفالهم؟ هل سيُعيد بيوتهم المدمرة؟ سُئل أحد الأطفال: ماذا تريد أن تصير في المستقبل، فأجاب بثقة: شهيد! فماذا يمكن أن يقدم العسكري المتنكر بلباس «بابا نويل» إلى أطفال أمنيتهم الموت؟