تلك الصبية الشقراء التي باتت اليوم بطلة وأيقونة، لو خُيّرت، لفضّلت على الأرجح أن تبقى الفتاة العادية التي ينبغي أن تكونها في السادسة عشرة، «مراهقة بريئة منشغلة بالأمور التي تنشغل بها البنات في جيلها»، كما كتبت عن عهد التميمي، بعد اعتقالها، إحدى صديقات العائلة. الآن فات الأوان، لن تعود عهد تلك الطفلة الخجول، الرقيقة، التي على الكبار مداراتها، ومراعاة مشاعرها.
لقد كبرت رغماً عنها، نزلت إلى المعمعة، وعاشت معموديّة النار. هذا هو قدرها، ويشبه قدر شعبها الذي كان يفضّل بدوره أن يكون شعباً عاديّاً، يعيش هانئاً مطمئناً في بلده ككل شعوب الأرض. الوجه الأنثوي المراهق، البريء، الذي يبتسم بعفويّة وثقة وتصميم وتعال ولامبالاة، فيما العسكر المدجج بالسلاح يقتاد صاحبته الصغيرة بالأصفاد لملاقاة التاريخ، هذا الوجه بات عنوان المرحلة. وصاحبته، تكتب بجسدها ومشاعرها وهشاشتها، سرديّة جديدة للمقاومة، تتجاوز الضفّة، تتجاوز فلسطين، إلى ديار العرب، إلى العالم أجمع. نعم، عهد التميمي بطلة العام
الفتاة التي تمْثُل الآن، في دولة الاحتلال، أمام محكمة عسكريّة، نسبة الافلات من بطشها شبه معدومة، كبرت على المذلّة في النبي صالح، في الضفّة الغربيّة المحتلّة. رأت جنود الاحتلال يقتحمون قريتها، حيّها، بيتها. يصادرون بلدها، وطفولتها، ومستقبلها. صار الاقتصاص هاجسها، ومشروعها. فهمت مع الوقت أن العدالة الوحيدة الممكنة هي تلك التي تحصّلها بيدها. هكذا اخترعت لعبة باتت من اختصاصها. لعبة يُفترض أنّها للكبار، تختلف عن ألعاب البنات في عمرها: أن تصفع كل جندي إسرائيلي تطاله يدها. طفلة وحيدة في مواجهة إحتلال غاشم. إنّها اللحظة التراجيديّة الفلسطينيّة بامتياز. تلك الصفعة التي وثّقتها الكاميرات الهاوية، ودارت حول العالم لترجع إلينا، بشيء من الروح، لا يخفى على أحد أنّها، برمزيّتها، أكثر إيلاماً من طعنة خنجر، من صدمة سيّارة، من طلقة مسدّس، من صاروخ كاتيوشا، من تفجير مفاعل ديمونا. تلك الصفعة تعيد الأشياء إلى نصابها: إذا كان الاحتلال الإسرائيلي هو المسخ الذي نعرف، فذلك لأننا تركناه يصبح كذلك. وأن قياداتنا تخلّت عنّا، وباعت القضيّة بـ «ثلاثين من الفضّة». يد أنثويّة صغيرة، ليّنة، يظنّها العالم رقيقة وضعيفة، تكفي كي تعيد الأمور إلى نصابها. تكفي لفضح الكذبة، وتسخيف الأسطورة، وتحطيم جدار الخوف. يد أنثويّة صغيرة تبعث الايمان بتحرير فلسطين. لقد كسرت عهد التميمي هيبة الاحتلال، اعادته الى حقيقته: كذبة مدججة بالحديد والنار والتكنولوجيا، وحماية الاستعمار الغربي، كذبة تقتات من خوفنا وعجزنا وتقاعسنا، ولا يتطلّب فضحها سوى شجاعة جان دارك الفلسطينيّة.
كفّ عهد ترسم اليوم أمامنا خريطة كاملة لفلسطين. تشهد على ولادة جيل جديد، يقطع مع الخنوع والاحباط والضياع، بعد رحيل القادة، وانهيار الرموز الجامعة، والمشاريع الوطنيّة، وتقهقر الفصائل، وركود القوى الثوريّة التي أانهكتها امتحانات التاريخ، وعطّلتها الردّة، وكاد يتجاوزها الزمن. إنّه أوسع من جيل، إذ يمتدّ من عهد التميمي إلى الشهيد باسل الأعرج، ميزته أنّه يجسّد القوى الحيّة للمجتمع الفلسطيني. عفويّ، غير منظّم، غير آت من أطر سياسيّة. ومن هنا وعيه الطليق، وقدرته على الفضح والتجاوز والتدخّل المباشر بالأدوات المتاحة، وبأشكال مختلفة. في مجتمع رام الله الغارق في وهم «الارتقاء الاجتماعي» وفخ «الرخاء الاستهلاكي»، والخاضع لعمليّة «كي وعي» ممنهجة، برعاية «المنظمات غير الحكوميّة»، جيل عهد التميمي هو جيل الصحوة. إنّه يجسّد رد الفعل الصحّي على حالة الاستسلام والتواطؤ التي أفرزتها القيادة الرسميّة منذ أوسلو، بحيث لم تعد «السلطة» سوى آلة تدجين وقمع للشارع الفلسطيني، تعمل بأمر من سلطة الاحتلال، وفي خدمتها، ومن أجل حمايتها. رأينا قبل أسابيع كيف أراد مهرجان السينما في رام الله أن يحتفي بزياد دويري، وكيف حزنت ادارته (باسم الحرية!) عندما حالت حركة الاحتجاج دون ذلك. قرأنا قبل أيّام البيان النغل الذي صدر عمّا يسمّى « المثقفين الفلسطينيين »، من مدجّني السلطة وموظفيها المستعدين للتنازل عن التاريخ، بعدما تنازلوا عن الجغرافيا، مقابل حفنة واهية من الامتيازات، ومقابل براءة ذمّة لقيادتهم من «المجتمع الدولي»: هكذا لم يبقَ من القدس التي يدافع عنها هؤلاء، سوى تلك «المحتلّة في العام 1967»… وقريباً سيقبل هؤلاء، إذ قيّد لهم، بـ… أبو ديس عاصمة لـ «وطنهم» الكرتون!
لكن، لا تقلقوا، فعهد التميمي بالمرصاد. صوّروها ظافرة في مواجهة غال غادوت، الكذبة الهوليوودية. لكن المواجهة التي تختصر العام ببلاغة، ليست فقط الفلسطينية الخارقة في مواجهة الصهيونيّة الخرقاء! ولا بطلة النبي صالح في مواجهة قزم «السلطة» في رام الله. كلا! لقد اقفل العام على مواجهة أسطوريّة، ستخلّدها الذاكرة الجماعيّة، بين الفتاة الفلسطينية التي تصفع إسرائيل بيدها العارية، والمسخ الوهابي الذي يسفح ثروات أهل الجزيرة، بمئات المليارات، عند أقدام الأميركان، ويبيعهم فلسطين كي يضمن عرشه الواهي، على خلفيّة دسائس البلاط المضحكة ــــ المبكية التي شاهدناها. «مملكتي من أجل حصان» صرخ «ريتشارد الثالث» في مسرحيّة شكسبير الشهيرة، «فلسطين والعروبة في مقابل عرشي» ينعق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ومستبدو النظام العربي يردّدون من خلفه كجوقة من الماعز. وحدها عهد التميمي لا تأبه بتآمر الأعاريب، وهي تقفز بين التظاهرات والحواجز لتتحدّى جلاّدها. إذا كان من مشهد يختصر العام المنصرم، ويحدد ملامح المرحلة المقبلة، فهو تلك المواجهة المجازيّة بين طفلة من رام الله تجسّد الغضب الشعبي العربي، ومسخ وهّابي يمثّل انحطاط العرب وخروجهم البائس من لعبة الأمم. كلّنا إيمان بأن جان دارك الفلسطينيّة ستنتصر وحيدة على «الدب الداشر»!