تحتل الانتفاضة مكانة خاصة في وعي الفلسطينيين، وهنا لا نتحدث عن مفهوم واضح ومحدد المعالم، ولكن عن نموذج من الفعل الشعبي الذي كفل للجمهور الفلسطيني ذات يوم الشعور بالمشاركة في صنع مصيره، فطوال السنوات منذ ميلاد «الثورة الفلسطينية» تحدثت قيادة «منظمة التحرير» باسم الجماهير واحتكرت ممارسة الفعل السياسي باسمها، وحاولت باستمرار إخراج الجمهور من حيز المشاركة السياسية إلا في إطار فعاليات تأييد سياساتها.

انتفاضة 1987 جاءت من خلفية مغايرة للممارسة السياسية الرسمية لقيادة المنظمة بأدواتها وتفاصيلها وفلسفة عملها، ورغم أن قيادة «م ت ف» استطاعت بوسائل متعددة وضع هذه الانتفاضة تحت سقفها السياسي والقيادي، فإنها تأسطرت في الوعي الجمعي للفلسطينيين عن نمط الفعل السياسي المثالي بالنسبة إليهم، حتى بعد نهايتها المعلنة بتوقيع اتفاق أوسلو 1993

عرفات الحج ومحمد حريبات

قيادة كل من السلطة الفلسطينية و«منظمة التحرير» اليوم هي أكثر نبذاً وعداء للفعل الجماهيري، وفي صلب عقيدة منظومتها الأمنية وجهازها الحاكم لا تزال تعتبره شكلاً من أشكال الفوضى يتعارض مع مشروعها والطريق الذي اشتقته لتحقيق الدولة بالتعاون مع إسرائيل، ذلك رغم استخدامها الحديث عن الفعل الجماهيري السلمي في سياق اعتراضها على المقاومة المسلحة وطرح بدائل عنها، وهذا قاد إلى ضلوع السلطة بشراكة نشطة مع الاحتلال لإجهاض كل حراك جماهيري سابق.
دون أدنى شك، شكل اعتراف الإدارة الأميركية بمدينة القدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني ضربة قاسية للمؤمنين بمسار التسوية، وجعل رهانهم المستمر على الإدارة الأميركية بوصفها راعية حصرية لهذا المسار محل سخرية مضاعفة في أوساط الفلسطينيين. وصار جلياً أن السعي المحموم للقيادة الفلسطينية لإقامة دولة تعيش جنباً إلى جنب مع قوة الاحتلال الإسرائيلي لا يحصد سوى الخيبات، واحدة تلو الثانية. ومع هذا، لا يبدو أن القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني سلمت بالوقائع التي تفرضها قوة الاحتلال وحلفاؤها على الأرض، فما زالت منظومة التنسيق الأمني مع قوة الاحتلال تعمل بكفاءة في ملاحقة بنى المقاومة وتقويضها، وما زالت سياسات الضبط التي تقيمها في ميادين المواجهات كما هي، بل تستغل كل فرصة لتأكيد رغبتها الكاملة في إحياء مسار التسوية، وأنه ما زال خيارها الاستراتيجي والوحيد.

لم يشكل ما حدث
سبباً لتبديل الفريق الحاكم فلسطينياً رهانه على التسوية


وفي مخالفة فجة لكل الشواهد التي يقدمها المشهد الفلسطيني، يجري تقديم قراءة للحدث بوصفه حدثاً مؤسساً لتحول استراتيجي في منطق التسوية. وتعود تلك القراءة في أصلها إلى رهان ثانٍ يتعلق باستعادة الفعل الجماهيري في مواجهة الاحتلال. فمنذ انحسار الفعل الجماهيري في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، يراهن الجمهور الفلسطيني على انتفاضة تحدث توازناً ما في مواجهة الاحتلال وإجراءاته على الأرض، ومع كل انحسار للهبات السابقة، كان يفسر هذا الانحسار بغياب حركة «فتح» عن المشاركة فيه، وتبنى على ذلك المزيد من الدعوات للسلطة بالسماح للفعل الشعبي الجماهيري.

ضربة من الداخل

جاءت الضربات لفريق السلطة ولمشروعها التفاوضي في فلسطين من رعاة هذا المشروع وسدنته الإقليميين والدوليين، فالمشروع المشترك بين الإدارة الأميركية وشركائها العرب يشمل تصفية القضية الفلسطينية دون اعتبار لدور «الشريك الفلسطيني»، وهذا يتضمن فرض واشنطن رؤيتها في أي من ملفات التسوية العالقة، وهو بطبيعة الحال لم يشكل دافعاً للفريق الحاكم فلسطينياً نحو أي تغييرات جذرية تطاول رهانه على خيار التسوية، بل العكس تماماً، إذ يبدو واضحاً من خطاب السلطة الرغبة العارمة في استثمار الحراك الجماهيري في الضغط على الإدارة الأميركية للاستعجال بتقديم خطتها للتسوية، وهو (الفريق) من جهة ثانية، يعمل على استثمار الحدث في إعادة تأهيل ذاته جماهيرياً، محاولاً الاستفادة من الحراك الحالي كأداة لترميم شرعيته المتهالكة، كما شرع بتقديم خطاب إلى الجماهير كما لو كان هناك موقف فلسطيني موحد بالفعل للتعامل مع الحدث تقوده السلطة. ويجري العمل على التحكم بسقف الحراك الجماهيري عبر مشاركة «فتح» رسمياً وصياغتها جدول فعاليات الحراك بل في التعبير عنه خطابياً في أحيان كثيرة بخطاب يحمّله منحى الفعل الاحتجاجي اللاعنفي.
رغم التشابه الشكلي مع الهبات السابقة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، يمكننا التسليم بأن الحراك الجاري هو الأقل شدة بينها من طرف المتظاهرين الفلسطينيين، وحتى في ظل مساحة انتشاره الواسعة، لا تزال ذروة الفعل الجماهيري تتركز في ساعات محددة من أيام الجمعة، ذلك في ظل غياب مسيرات تشييع الشهداء والمطالبة بجثامينهم التي كانت تسمح بنقل المواجهات لمساحات جديدة زمانياً ومكانياً، وكذلك انخفض عدد العمليات الفدائية الفردية عن تلك التي رافقت الهبات السابقة حتى نماذج التخريب الشعبي للمنشآت الصهيونية تقلصت إلى الحد الأدنى.
الهبات الجماهيرية التي حدثت في الأعوام الماضية لم تتجاوز واقعها، ولكنها نجحت في استنباط أدوات جديدة في مواجهة الإجراءات الأمنية المشتركة للاحتلال والسلطة على غرار العمليات الفدائية الفردية، وكذلك تجاوز هذا الحراك ميدانياً في مرات عدة الحدود التي يفترضها مشروع التسوية للوجود الفلسطيني «حدود 67»، إذ امتد ليشمل بعض المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948.
نجحت السلطة وقطاعات النخب المرتبطة بها في إبراز النماذج الملائمة لها سياسياً من الحدث الميداني، فيجري التركيز مجدداً على خطاب الضحية، والتنصل من حق الفلسطيني بالدفاع عن نفسه، وفي هذا السياق تصبح عهد التميمي نموذجاً يقبله إعلام السلطة، فيما يتنصل من منفذي عمليات الطعن الفردية ويقصيهم من المشهد، بل بإمكان رئيس السلطة، محمود عباس، أن يتحدث عن «حراك لم تطلق فيه رصاصة واحدة»، وفي الخلفية، تستمر السلطة في التنسيق الأمني مع الاحتلال بما يسمح بخفض حدة المواجهات ومنع خروجها عن معادلات الاحتواء. وفي هذا الحراك، حددت السلطة معاييرها ومفهومها له، وبواسطة أدواتها قدمت نموذجاً عن الخلل الذي تحدثه هذه السلطة في كل موضع أو نموذج فلسطيني تمد إليه ذراع سيطرتها.
وما يزيد قتامة المشهد في فلسطين المحتلة أن بقية القوى الفعالة خارج السلطة لا تزال تقصر خطابها على مهاجمة الاحتلال ولا تقدم نقداً جدياً لجذور المشروع القائم على التعايش مع الاحتلال، الذي يضع فكرة إقامة الدولة «بالتعاون مع الاحتلال» بديلاً عن فكرة التحرير، نفسه المشروع الذي أنتج «أوسلو» ومنظومة القمع المشتركة بين السلطة والاحتلال للجمهور الفلسطيني، وقيّد حدود «المشروع الوطني الفلسطيني» بأكمله.

القدس كعاصمة للدولة اليهودية عربيّاً

من اللحظات الأولى لإعلان دونالد ترامب بخصوص القدس كانت هناك سلسلة خطوات اتخذت عربياً على الصعيدين الرسمي والشعبي للرد على هذا الإعلان، أبرزها كان في الأردن ولبنان واليمن والعراق ودول المغرب العربي وشمال أفريقيا، مع غياب سعودي تام للقدس شعبياً ورسمياً حتى على مستوى خطبتي الجمعة التي تلت الإعلان في مساجد السعودية.

الاستفادة من
هذه الهبّة هي في الحيّز العربي أكثر من الفلسطيني
على المستوى الرسمي العربي، تمثل الموقف بدعوات عاجلة لاجتماع «مُنظمة العالم الإسلامي» للانعقاد ولوزراء الخارجية العرب وانعقاد لمجلس الأمن، إضافة إلى التصريحات الفردية لمواقف الدول العربية إما عبر حُكامها أو وزراء خارجيتها، التي تباينت في حدة استنكارها الخطوة ولغتها، لكنها لم تتجاوز ما هو مطروح في الأصل بالاستناد إلى قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، بسقف أقصى طموحه دويلة فلسطينية ترتضيها إسرائيل كأحد جسور التطبيع العربي معها.
لكن اللافت في الحراك عربياً هو ما جاء على المستوى الشعبي في غالبية البلدان العربية وذلك لما تمثله القدس في وجدان هذه الشعوب ومعتقداتها، فمن محاولات لاقتحام السفارة الأميركية في لبنان والمسيرة العارمة في الضاحية الجنوبية، إلى التظاهرات التي عمّت عمّان وأغلب مُدن الأردن، وصولاً إلى التظاهرات في العراق واليمن الذي تعالى على جراحه في مسيرات حاشدة، إلى ما شهده الشارع المغاربي أيضاً من تظاهرات عمت غالبية مدنه. وفي مصر، التي كانت جماهيرها عرضة لتعبئة إعلامية معادية للفلسطينيين وقضيتهم، شهدت فعاليات يمكن وصفها أنها الأولى منذ سنوات في الجامعات والنقابات، وربما الأهم هو استعادة الملف الفلسطيني عبر هذا العنوان لحضوره كأولوية للجماهير العربية بعد سنوات من الإشغال بخطاب طائفي يعبئ الجماهير العربية والاسلامية على بعضها بعضاً، ويؤسس لقبول إسرائيل في منطقة «تتصارع طوائفها» وتضيع هويتها الرافضة لهذا الكيان.

الخلاصة

إنّ ما لم تؤسس له هذه الموجة من التضامن الجماهيري العربي هو نفسه ما لم يؤسس له الفلسطينيون أنفسهم بالاستفادة من حالة الغضب الشعبي، أي بخلق خطاب نقيض لمشروع السلطة الفلسطينية وطي عقود من التفاوض دون نتيجة واحدة تُذكر، والسير بحراكها بعيداً عن ملف التفاوض الذي لا تزال السلطة تتشبث به حتى اللحظة. هذا الدور من السلطة لا يزال يحظى بدعم رسمي عربي سيوظفه محمود عباس لتدعيم مركزه في وجه خصومه من الفلسطينيين. ويبدو أن مساعي عباس ستحقق درجة من النجاح في هذه المرحلة، فالتأثير الحقيقي لأي فعل جماهيري (انتفاضة) يتوقف على قطعه الكامل مع المنظومة القائمة بشقيها (الاحتلال والسلطة)، والذهاب فعلياً نحو تقويض هذه المنظومة. ذلك لا ينفي أن كل لحظة صدام مع الاحتلال تنعكس إيجاباً على وعي الجمهور باستحالة التعايش معه وهذا ما يتناقض جذرياً مع خيارات السلطة.
إنّ السياق الذي يفرض نفسه للاستفادة من هذه الهبّة هو في الحيز العربي أكثر من كونه في الحيز الفلسطيني السياسي أو الميداني، فالحدث الذي جاء في ظل تسابق عربي وهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل وتمهيد تقوده السعودية بصفقة لتصفية القضية الفلسطينية، في ظل إرهاق الجمهور العربي بمعارك مصطنعة بعنوان طائفي طوال السنوات الماضية، كان كفيلاً أولاً باستعادة فلسطين كأولوية وربما كحاجة أساسية في مزاج الجمهور العربي عموماً، ما يشير إلى إمكانات حقيقية للاستثمار في هذا المزاج الجماهيري من أجل تعطيل دور بعض النظم العربية في فرض التسوية التصفوية على الفلسطينيين.
وبشيء من التفصيل لبعض الساحات العربية، يبدو أن هناك حاجة أردنية رسمية لإعطاء مجال لحراك شعبي مضبوط في هذا الجانب، وصحيح أن إمكانية تحقيق مطالب جماهيرية مثل إلغاء اتفاقية وادي عربة تبدو مستحيلة، ولكن هناك إمكانية أن يصل هذا الحراك بعض الأهداف ومنها إلغاء اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني، كذلك الحال في مصر، إذ إن استعادة الملف الفلسطيني حضوره على المستوى الشعبي بمثل هذه الفعاليات قد يثمر باتجاه نوع التعديل والتخفيف للدور المصري الرسمي في حصار قطاع غزة.
المزاج الجماهيري العربي يفتح الباب أمام آمال فلسطينية عريضة لكن الأهم هو استذكار الجماهير العربية الجمعي عداءها لإسرائيل وأسباب هذا الصراع التي لم تكن تقتصر على الفلسطينيين، والأهم هو تصحيح البوصلة وبعد ذلك يمكن قطع الطريق مهما بلغ طوله وصعوباته.