النيل لا ينسى كما كنا نظن. هكذا أنشد ــ ذات قصيدة ــ الشاعر الفلسطيني محمود درويش مأخوذاً بقدرة الذاكرة العامة المصرية على إزاحة الركام من فوقها في لحظة تنوير واحدة. قد تبْهت الذاكرة العامة بتقادم السنين وتغيّر المسارح السياسية وتناقض الرجال والأدوار، لكنها لا تمحى ويستحيل إنكارها.
عندما رحل الكاتب الصحافي صلاح عيسى، بدا لافتاً ذلك الإجماع الواسع على الأدوار التي أداها والمعارك التي خاضها في ثمانينيات القرن الماضي. كانت «الأهالي»، التي تحمّل مسؤوليتها التحريرية لسبع سنوات بعد اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات عام ١٩٨١، أكثر الصحف المصرية نفوذاً وتأثيراً واحتراماً، وكان نجمها الأول بلا منازع. في نهايات عصر السادات، صدرت «الأهالي» كصحيفة معارضة برئاسة تحرير الكاتب الصحافي محمد عودة، غير أن أغلب أعدادها صودرت قبل توزيعها بقرارات من محاكم الأمور المستعجلة، حتى اضطرت إلى تخصيص عدد كامل لنشر برنامج حزب التجمع اليساري الذي تصدر عنه، للإفلات من مقصلة المصادرة. بعد حادث الاغتيال، اختلفت البيئة السياسية بانتقال السلطة إلى حسني مبارك الذي تعلّم من حادث المنصة ضرورة أن يفسح مجالاً أوسع للحريات الصحافية.
أتيحت الثغرة التي تبدّت في بنية النظام، لـ«الأهالي» كما غيرها، لكنها وجدت في نفسها الشجاعة الكافية لتحمل مسؤولية توسيع هامش المعارضة إلى حدود غير معتادة. وقد حظيت ــ في المقابل ــ بثقة الرأي العام ووصل توزيعها إلى ما يتجاوز الـ ١٥٠ ألف نسخة، وهو رقم يكاد يقترب من نصف ما يوزع الآن من الصحف مجتمعة (وهذه مأساة مروّعة بكل حساب مهني وسياسي في بلد عريق مثل مصر).
في تلك الأيام من الثمانينيات، تبدّت ظاهرة غير مألوفة حيث كانت أعداد كبيرة من المواطنين تنتظر نسخ «الأهالي» مساء كل ثلاثاء عند مقر مؤسسة «الأهرام»، حيث تطبع لقراءتها من دون انتظار لصباح اليوم التالي. بقدر مهنيتها وحرفيتها وعمق نقدها لجوهر السياسات المتبعة من الانفتاح الاقتصادي إلى الصلح مع إسرائيل وانتهاكات الحريات العامة، اكتسبت شعبيتها وصدقيتها.
كانت مقالاته الأكثر قراءة، فأسلوبه سلس وساخر، وخاصة بابه الشهير «الإهبارية»، والتعبير مزيج مركب من أسماء الصحف الرسمية الثلاث «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية». وقد جرت عليه آراؤه الكاشفة لمستويات الابتذال والنفاق هجوماً متصلاً على صفحات تلك الصحف. بعض سحر أسلوبه يعود إلى بنائه الروائي، وهو قد بدأ حياته كاتباً للقصة القصيرة. وأغلب سره في نظرته التاريخية المتعمقة، وهو من الكتّاب المصريين المعدودين الشغوفين بالتاريخ الحديث وأسراره، الذي هو موضوع كل كتبه، مثل «الثورة العرابية». ينسب إليه الكشف ــ بالتحقيق والدراسة ــ عن نص دستوري شبه مجهول، جرت صياغته عام ١٩٥٤، لكنه لم ينفذ، تحت عنوان صادم: «دستور في سلة القمامة».
كما ينسب إليه إعادة قراءة وقائع قديمة بحس روائي وتاريخي وسياسي واجتماعي يصعب أن يتوافر لغيره، بعضها من داخل القصور الملكية وبعضها الآخر من أرشيف المحاكم بحثاً في التاريخ الاجتماعي كقضية «ريا وسكينة» الشهيرة. عند مطلع الثمانينيات، بدا الشاب صلاح عيسى مهيّأً تماماً بكفاءته المهنية ووضوح مواقفه لتصدر المشهد في ذلك الوقت، وفي سجله أربعة اعتقالات، لكل منها مغزى ورسالة. في بواكير الصبا في الستينيات، جرى اعتقاله لأول مرة بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات السرية. بحكم الانتماء لأسرة ريفية فقيرة، وجد نفسه في الانحياز السياسي إلى اليسار. وبحكم طبيعة النظام، أدخل بعض أنصاره الطبيعيين خلف قضبان السجون. كانت تلك إحدى التراجيديات الكبرى في التاريخ المصري الحديث حيث دافع اليساريون، الذين سجنوا في الخمسينيات والستينيات، عن التجربة الناصرية بعدما انقضت أيامها وبدأت الثورة المضادة أوسع هجوم عليها.
وقد كتب صلاح عيسى على الصفحة الأخيرة من «الأهالي» مقالاً، أخذ عنوانه من قصيدة لشاعر العامية المتمرد أحمد فؤاد نجم: «كل الجراح طابت»، معبّراً عن تقديره الكبير لجمال عبد الناصر، الذي أعاد اكتشافه تحت وطأة الحملات عليه، رغم ألم السجن ومحنته.
لم تكن مصادفة تلك الصداقة التي جمعت بين عيسى ونجم، نفس التجربة الشعورية، نفس العتاب لعبد الناصر والانحياز إليه بعد غروب «يوليو». نفس المناهضة لسياسات السادات، التي وصلت إلى ذروتها عام ١٩٧٧ في انتفاضة الخبز والزج بهما ــ مجدداً ــ خلف أسوار المعتقل.
بدا الأمر متسقاً ــ في الاعتقال الثاني ــ فهو يناهض السادات بكل سياساته وخياراته، والأخير لا يطيق اليسار بكل تياراته وجماعاته ودأب على وصفهم بـ«الأرازل». في كتابه «مثقفون وعسكر» (١٩٨٥)، راجع تجربة «جيل الستينيات»، الذي انتمى إليه في ظل حكم عبد الناصر والسادات، وسجل شهادات لها قيمة فكرية كبيرة.
«... عاش جيلنا تجربة عريضة ومريرة... ولست سوى شاهد واحد، يقف في شرفة واحدة، وما أكثر الشرفات وأكثر الشهود في عمر هذا الجيل الغريب» ــ كما كتب في مقدمته، التي حملت عنواناً يعبّر عن شخصيته في ذلك الوقت: «خروج عن النص». الخروج عن النص جوهر فكرة التمرد. قد تختلف الأزمان والمواقف، لكن للتاريخ حرمته. في عالمنا العربي، الاختلاف في الرأي يفسد للود كل قضية. غير أن ذلك لم يمتد ــ في حالته ــ إلى أي نيل من كفاءته المهنية وإخلاصه حتى النهاية لقضية الحريات الصحافية، وخاصة إلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر وفق الالتزام الدستوري.
كان آخر مقال كتبه على صفحات «المصري اليوم»: «أين اختفت مشروعات قوانين تحرير الصحافة والإعلام»، وآخر جملة كتبها «إن هناك رائحة كريهة تحدث في الدنمارك»، مستعيراً التعبير الشكسبيري الشهير في مسرحية «هاملت».
بسبب تمرده السياسي، تعرّض للفصل عندما قرر السادات، وهو عائد من زيارة الرئيس الروماني شاوشيسكو، أحد عرابي التسوية مع إسرائيل، أن يفصل معارضيه في الصحافة المصرية، غير أن الفصل لم يطل سوى اثنين: صلاح عيسى من الجمهورية، وكنت أنا الآخر من «وكالة أنباء الشرق الأوسط» في أول عهدي بالصحافة عام 1978. بجسارة الموقف من «كامب ديفيد»، وجد نفسه ــ مرة ثالثة ــ معتقلاً في سجن القلعة بتهمة لم يستسغها ولم يتقبّلها واعتبرها عاراً على النظام لا يمحى: «العداء لإسرائيل».
كان ذلك في الأسبوع الأخير من يناير ١٩٨١ ورافقه إلى المعتقل الخبير البارز في الشؤون الأفريقية حلمي شعراوي متهمين بالتظاهر أمام الجناح الإسرائيلي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب وتوزيع بيان يحرّض على مقاطعته، بينما من شاركوهم الاحتجاج نفسه يرفعون العلم الفلسطيني ويرتدون الكوفية الفلسطينية.
هكذا كان ــ مع شعراوي ــ أول مواطنين عربيين توجّه لهما تهمة العداء لإسرائيل!
لم تكن معارضته لـ«كامب ديفيد» جملة عابرة في مسيرته، فقد تأسست على رؤى وأفكار واعتقادات دفع ثمنها، قبل أن يزج به ــ للمرة الرابعة ــ خلف القضبان في اعتقالات سبتمبر ١٩٨١ التي اغتيل السادات بعدها بنحو شهر ــ كأنه على موعد مع أهم تجربة في حياته التي طبعت الثمانينيات حتى يكاد يكون مستحيلاً التأريخ لها من دون التوقف عندها طويلاً.
* كاتب وصحافي مصري