باعتراف جميع المسؤولين، ينخر سرطان الفساد جسد الدولة العراقية. اليوم، وبعد 14 عاماً من نهب خزينة إحدى أبرز الدول النفطية في العالم، وبعد طول تسويف بمحاربة «الفساد والفاسدين»، يبدو أن رئيس الوزراء حيدر العبادي جديٌّ هذه المرّة في وجوب تحويل خطاباته «الرنّانة» من إطارها النظري إلى إجراءاتٍ تنفيذية، ذلك أن فريقه الخاص يرى في الأيام اللاحقة «التوقيت الأنسب» لإطلاق هذه الحملة.
العبادي الذي حرص طيلة الفترة الماضية على التأكيد أن حربه التالية بعد القضاء على «داعش» ستكون حرباً ضد الفساد، يرى في المرحلة المقبلة امتحاناً ذا بعدين؛ في الأوّل، يحمل بُعداً شخصياً في إثبات حضوره القوي، وقدرته على ترجمة رؤاه في «بناء الدولة والإصلاح»، الأمر الذي يشكّل مدماكاً لبناء «زعامة وطنية» لرجل لم يخرج من البيوتات السياسية «التقليدية». وفي الثاني، امتحانٌ لـ«ولائه» وقدرته على التمييز بين انتمائه إلى «حزب الدعوة» من جهة، وموقعه كرئيسٍ للحكومة من جهة أخرى، خاصّةً أن أبرز المتهمين بتلك القضايا يسبحون في فلك «الدعوة»، وتحديداً أولئك المحسوبين على رئيس الوزراء السابق (النائب الأوّل لرئيس الجمهورية ــ حالياً) نوري المالكي.

نصح الأميركيون
العبادي بكيفية إدارة
«الحرب ضد الفساد»


هذان السببان يشرّعان الباب أمام أسئلة كبيرة حول الدوافع الأخرى، والموجبة لإعلانٍ عن تحدٍّ كهذا، إذ يتمسّك العبادي بالتزامه بـ«بيانه الوزاري»، والتشديد المستمر على وجوب الفصل بين الأداء الحكومي و«الخصومات» السياسية، فيما يفسّر بعض «المستهدفين» من حملته، وآخرون، أن توقيت الحملة هو «توقيتٌ انتخابيٌّ بامتياز» يسهم في زيادة رصيده الشعبي، خاصّة أن الرجل حقّق مقبولية جماهيرية بالانتصارات الميدانية، ونجاحه في إدارة الأزمة (حتى الآن) مع «إقليم كردستان»، وما يحتاج إليه قبيل الانتخابات المرتقبة في أيّار المقبل إثبات أنه رغم «دعويته» وانتمائه إلى «الإسلاميين»، فإنه على عكسهم، بل سيكون «شوكةً في طريق مشروع هدم الدولة»، بوصف مقرّبيه.
ولكن بالرغم من تناقض الرأيين، إلا أن إطلاق حملة كهذه قبيل الانتخابات يصبُّ في مصلحة العبادي، ويحقّق نوعاً من الالتفاف الجماهيري حوله، بمعزلٍ عن طبيعة التحالفات التي سيعقدها في الأسابيع المقبلة.
وتبرز هنا معلومات ينقلها بعض المطلعين على سياسات واشنطن في «بلاد الرافدين»، في حديثهم إلى «الأخبار»، أن الإدارتين الأميركية والإيرانية تجمعان حتى الآن على بقاء العبادي في منصبه لولايةٍ ثانية، لتشابك مصلحة الطرفين بإبقاء شخصية «وسطية» مع «افتقاد واشنطن وطهران لرؤية واضحة حول كيفية إدارة الملف العراقي في مرحلة ما بعد داعش». وتضيف المصادر أن وفوداً أميركية وجّهت إليه «حزمة نصائح» حول كيفية إدارة «الحرب ضد الفساد»، باستراتيجية يضمن من خلالها «الانتصار على الفاسدين» من جهة، و«يفرّغ أخصامه من المحيطين بهم في المرحلة الأولى، تسهّل عليه لاحقاً إنهاءهم سياسياً» من جهةٍ أخرى. ولا تقف «النصائح» عند هذا الحد، بل تذهب المصادر في قولها إلى أن الوفود ترى في «المال الموجود لدى الفاسدين، من خصوم العبادي، تهديداً للأخير، فلا بد من استرجاع تلك الأموال في إطار تجفيف منابع قوتهم»، مؤكّدةً أن «الحقبة الماضية، بمآسيها وويلاتها، لا بد أن تُحمّل إلى جهةٍ محدّدة (في إشارةٍ إلى المالكي)»، مع تصاعد الحديث عن «وجوب سقوط ورقة المالكي» لدى الأوساط الأميركية لفتح صفحة جديدة من تاريخ العراق، مع تجنّب الإدارة الإيرانية المعنية بالملف العراقي تبنّي وجهة النظر هذه إزاء «أبرز» حلفائها في العراق.
تقاطع «الحرب ضد الفساد» مع الحسابات السياسية الداخلية والإقليمية يفرض على بغداد التريّث في إطلاقها حتى استكمال القوات العراقية تحرير كامل الأراضي من تنظيم «داعش». هذا التريّث سيدفع بالقوى السياسية المختلفة ــ المتضرّرة والمستفيدة على حدّ سواء (على صعيد الاستثمار السياسي) ــ إلى الالتفاف حول العبادي في معركته المرتقبة، لكنّ هناك رأيين مختلفين.
يدعو التوجّه الأوّل إلى «اجتثاث الطبقة الصغيرة والوسطى من الفاسدين»، وفق مصادر نيابية عراقية، التي تؤكّد في حديثها إلى «الأخبار» أن ضرب هذه الوجوه سيكون إنذاراً لـ«الفاسدين الكبار»، ودعوةً «غير مباشرة» إلى إعادة الأموال والأصول للحكومة الاتحادية، وحرصاً من الأخيرة على عدم «شراء تكتّل متضررين يعرقل لاحقاً هذه العملية، ويحول دون تحقيق العبادي هدفه من الحرب هذه». أما التوجّه الثاني، فيدعو العبادي إلى محاربة «رموز الفساد الكبيرة» قبل التوجّه إلى «صغار الكسبة»، بدءاً من زعيم «الحزب الديموقراطي الكردستاني» مسعود البرزاني (بتهمة سرقة نفط كركوك)، إلى المسؤولين عن مرافق الدولة الحيوية من مرافئ ومطارات، وغيرها. وأمام الرأي الثاني، فإن سؤالاً يوجّه إلى مقرّبين من المالكي حول «جاهزية» الأخير لمواجهة كهذه، إذ يؤكّدون بدورهم «جاهزية الامتثال للقضاء، إذا ثبتت الإدانة».




لا أسماء... ومستشارين دوليين لـ«مكافحة الفساد»

مع سريان الحديث عن وجود قوائم أسماءٍ تستهدفها حملة «مكافحة الفساد»، من وجوهٍ سياسية بارزة، تؤكّد مصادر حكومية، في حديثها إلى «الأخبار»، أنه «ما من قائمة حتى الآن»، مشيرةً إلى أن رئيس الوزراء حيدر العبادي ليس في وارد استهداف جهةٍ بعينها، ولا يعنيه شخصٌ بمعزلٍ عن انتمائه أو موقعه، إنما الحملة ستستهدف من «تثبت إدانتهم بالجرم والدليل» من قبل الجهات القضائية المختصّة، بالتعاون مع المستشارين الدوليين الذين يقدّمون «استشاراتٍ حول كيفية تتبع الحركة المالية للمتهمين».
وتنفي المصادر أن يكون لأيّ «مستشارٍ» صفة تخوّله «اتهام أحد»، لكنّ قراراً «سياديّاً» كهذا منوطٌ فقط بالجهات القضائية العراقية المخوّلة. وتجيب المصادر لدى السؤال عن طبيعة دور «المستشارين»، فتؤكّد أن العراق استعان بخبرات دولية من «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي»، من خلال ورشات عمل وتدريب الكادر العراقي الموجود على «التعامل مع قضايا كهذه».