وحيدة بين «شقيقاتها» تبدو «السعودية الجديدة» في حربها الشاملة المفتوحة على جبهتي الداخل والخارج. باستثناء الدعم الإماراتي الذي تبدو بصمات أصحابه واضحة في كل ما أقدمت عليه الممكلة أخيراً، ومساندة البحرين التي لا يملك ملكها إلا أن يفعل ذلك، يغيب أي موقف خليجي مؤيد لانفلات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من عقاله، واتخاذه خطوات «طائشة» على أكثر من مستوى، بل إن الأصوات الرافضة لذلك «التهور» يزداد حضورها يوماً بعد يوم، إن لم يكن بالتصريح فبالتلميح.
البداية من قطر التي لا تزال تعيش آثار المقاطعة المفروضة عليها منذ 5 يونيو/ حزيران الماضي. مقاطعة تظهر، اليوم، كما لو كانت الخطوة الأولى في مسار «جنوني» سيطلقه ابن سلمان، بعد حربه «العبثية» في اليمن. تدرك الدوحة أن رهاناتها التي رافقت بدايات الأزمة على إمكانية أن يلعب «التيار العقلاني» في المملكة دوراً في كبح الاندفاعة المضادة لها باتت ضئيلة جداً. ظهر ذلك مع إطاحة ابن سلمان ابن عمه، ولي العهد السابق، محمد بن نايف، ثم تتابع مع استمرار التصاق المواقف السعودية والإماراتية من الأزمة الخليجية، ثم جاءت الأوامر الملكية والاعتقالات الأخيرة لتضعف، إلى أبعد الحدود، الآمال القطرية بـ«اعتدال» موقف الرياض إزاء الدوحة.
هذا ما عبّر عنه وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، قبل يومين، بقوله، في مقابلة تلفزيونية، إن «الأزمة الخليجية لم تتحرك وما زالت تراوح مكانها منذ بدأت». مراوحة لا يبدو أن تغيرات وازنة ستطرأ عليها خلال الفترة القصيرة المقبلة، في ظل «إشغالنا بالجبهات التي تفتحها في كل مكان» على حد تعبير أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، في نقد لاذع هو الأول من نوعه وجّهه، أول من أمس، للسعودية والإمارات.
انطلاقاً من ذلك، تتعامل الدوحة مع المعطيات السعودية المستجدة على أن السلطة باتت، عملياً، متركزة في يد ابن سلمان، الذي فاقت درجة تأثره بولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، واستماعه إلى «نصائحه» كل التوقعات في هذا الشأن. من هنا، تتوقع السلطات القطرية استطالة إضافية في الأزمة الخليجية، تحملها على تظهير مزيد من التمايز، إن لم يكن التعارض، مع السياسات الخارجية السعودية، تحسباً لما سينجلي عنه غبار الزوبعة العاصفة في المنطقة الآن.
وفق تلك المحددات بعينها، يمكن فهم الموقف القطري الداعي، مجدداً، إلى الحوار مع إيران بدلاً من التراشق. إذ إن «إيران دولة جارة لدول الخليج، ولدينا مصالح مشتركة، ويجب حل الأزمة معها عبر الحوار»، وفق ما جاء في التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية القطري، والتي حملت انتقاداً مبطناً للتصعيد السعودي. وفي الاتجاه نفسه، اتهم آل ثاني، السعودية، ضمناً، بـ«زعزعة استقرار لبنان»، بقوله: «كانت هناك بوادر استقرار، وهذا ما كنا نبغيه وندعمه»، داعياً إلى «عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية»، مع الإشارة هنا إلى أن السفير القطري في لبنان، علي بن حمد المري، كان من أوائل الوافدين، على سبيل التضامن، إلى القصر الجمهوري، عقب اندلاع أزمة استقالة سعد الحريري.
الموقف نفسه، وإن بلهجة أقل حدة وأقرب إلى الدبلوماسية المعهودة لديها، تجليه سلطنة عمان من التطورات الأخيرة في المنطقة. تصريحات وزير خارجية السلطنة، يوسف بن علوي، قبل أيام، لقناة تلفزيونية فرنسية، لم تكن خالية من الدلالات. صحيح أن ابن علوي وصّف ما يجري في السعودية اليوم بأنه «مرحلة من النمو والتطور والتنمية الشاملة يقودها ولي العهد، محمد بن سلمان»، إلا أن تعليقاته في ما يتصل بإيران واليمن حملت انتقادات مبطنة للسياسات الخارجية التي يسير وفقاً لمتطلباتها ذلك الأمير الشاب.
قال ابن علوي إن «السعودية وإيران دولتان كبيرتان، ومن مسؤوليتهما الحفاظ على الاستقرار في الإقليم وفي المنطقة، ونحن كشركاء في هذا الإقليم نعمل على الأمن والسلام». توصيفٌ يجافي، حد التناقض، رؤية السعودية لإيران باعتبارها «عدو المنطقة»، وتشديدها على وجوب محاربتها، وهو ما حذر منه، على طريقته «الناعمة»، الوزير العماني، باستبعاده حدوث حرب بين الدولتين، معوّلاً في ذلك على أن «القيادة في البلدين حاذقة، وتنظر إلى كل الأمور بمنظار دقيق».
أما الموقف الأكثر إثارة للانتباه فكان في ما يتصل باليمن، وخصوصاً أنه جاء بعد حوالى 3 أيام من إعلان «التحالف» بقيادة السعودية تشديد الحصار المفروض على المنافذ الجوية والبحرية والبرية اليمنية. أكد ابن علوي أن عمان «تفتح الحدود لكل اليمنيين للسفر إلى دول أخرى والرجوع إلى اليمن»، في قبالة السعودية التي تغلق آخر ما تبقى لليمنيين من معابر يستمدون من خلالها عناصر الحياة. وأشار الوزير العماني إلى أن إبقاء بلاده حدودها مع اليمن مفتوحة «أدى إلى ملاقاة بين الشماليين والجنوبيين لحل مشاكل متعددة»، لافتاً إلى أن «عمان تسعى مع الأشقاء في اليمن، ومع غيرهم، من أجل الوصول إلى حل الخلافات»، مضيفاً أن «عمان تدعم الأشقاء في اليمن بالأساليب التي ليس فيها إلا الدعوة إلا التعقل».
وبالنظر إلى أن السياسات السعودية والإماراتية في اليمن ساهمت في تعميق الشرخ بين الشماليين والجنوبيين، وفي سد الطريق على أي جهود للتوصل إلى تسوية، وفي إدامة حرب ليس فيها شيء من منطق أو «تعقل» لأكثر من سنتين ونصف سنة، تصبح الرسالة العمانية شديدة الوضوح: نحن نشيّد جسور التقارب و«شقيقتنا» تهدمها.

توحي تغطية وسائل الإعلام المحلية بتطلع الكويت إلى تلافي «السيناريوات الأسوأ»


على المقلب الكويتي، لا يبدو الموقف مختلفاً كثيراً، وإن كانت الكويت تحرص إلى الآن على مداراة السعودية ومجاراتها، في ما لا يمكن عدّه اصطفافاً صريحاً إلى جانب الرياض. نموذج من ذلك ما أعلنته الكويت في التاسع من الشهر الجاري من تحذير لمواطنيها من السفر إلى لبنان، ودعوتها رعاياها الموجودين في هذا البلد إلى مغادرته فوراً، بعد اتخاذ السعودية خطوة مماثلة. تحذير ودعوة أسهما بلا شك في تعزيز أجواء التوتر، إلا أنهما لم يتعديا إلى ما هو أبعد من حدود المسايرة، من مثل موقف كويتي رسمي يؤيد المملكة في تصعيدها الكلامي ضد إيران ولبنان، أو حتى يبدي التضامن معها.
على العكس مما تقدم، توحي تغطية وسائل الإعلام الكويتية المحسوبة على السلطة، وخصوصاً منها الصحف، للتطورات الأخيرة في المنطقة، بتطلع الكويت إلى تبريد الأجواء، وتخفيض مستوى التوتر، وتلافي «السيناريوات الأسوأ» في حال مضيّ ولي العهد السعودي، ومعه ولي عهد أبو ظبي، إلى أبعد مما ذهبا إليه إلى الآن. وهو مطمحٌ عبّر عن جانب منه، الثلاثاء، السفير الكويتي لدى لبنان، عبد العال القناعي، بقوله إن الكويت تدعم جهود لبنان للتغلب على «الظرف الدقيق» الذي تمر به البلاد، وتأكيده وقوف الكويتيين إلى جانب «سيادة واستقلال لبنان».
هذا «التعقل» الكويتي يرافقه، على نحو لافت، ضخ سياسي وإعلامي مكثف في اتجاه تعزيز التضامن مع الفلسطينيين، وإعادة إحياء المسألة الفلسطينية في الكويت. يأتي ذلك في وقت يتسارع فيه الحديث عن خطوات سعودية عملياتية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومحاولة طمس المحددات الرئيسية للقضية الفلسطينية. مفارقة تنطوي على دلالات بالغة في ما يتصل بالرهان السعودي على إمكانية جر الدول العربية والإسلامية خلف الرياض في قاطرة التطبيع؛ باعتبار مكانة المملكة الدينية والروحية.
هكذا إذاً، تمضي سعودية ابن سلمان منفردة في طريق التصعيد الإقليمي، المترافق مع «تسونامي» داخلي، وسعي حثيث لتكريس الصداقة مع إسرائيل والعداوة ضد إيران. وإذا كانت الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً لا تتعامل مع تلك التبدلات كسلة واحدة، إنما تحاول اللعب على حبالها، ما يخدم مصالحها ومصالح إسرائيل في نهاية المطاف، فإن «أشقاء» المملكة في مجلس التعاون لا يبدون تجاوباً ولا حتى تفهماً للاستراتيجيات السعودية المستجدة. فتور واعتراض لا يُستبعد تصاعدهما في المرحلة المقبلة، وخصوصاً إذا ما آلت حركة المد والجزر الراهنة إلى اصطفافات لا تتلاءم وأهواء السعودية، من مثل تعزّز التقاطعات القطرية ــ التركية ــ الإيرانية.




حتى المغرب... لا يتضامن!

إلى جانب غياب المواقف الخليجية المؤيدة للسعودية في تصعيدها ضد إيران ولبنان واليمن، لم يُسجَّل على المقلب الأفريقي، خصوصاً في المغرب الذي تربطه علاقات متينة بالمملكة، أي تصريحات تضامنية مع الرياض، بل إن الخطوات الأخيرة للملك محمد السادس أوحت بعزم بلاده على النأي بنفسها عن الجبهات الجديدة التي تفتحها السعودية. إذ فيما كانت الرياض تطلق نيرانها الكلامية على غير جبهة، حطّ ملك المغرب، على نحو مفاجئ، قبل 3 أيام، في دولة قطر، قادماً من الإمارات، حيث شارك في افتتاح متحف «لوفر أبو ظبي». والتقى في الدوحة أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، وبحث معه الأزمة الخليجية المستمرة منذ 5 أشهر. لقاء فُسّر على أنه ترجمة للموقف المغربي من تلك الأزمة، والمائل، منذ بداياتها، إلى التعاطف مع الدوحة. وكان المغرب قد نأى بنفسه عن خطوات عواصم المقاطعة، داعياً إلى «التحلي بالحكمة وتسوية أسباب الأزمة».
على خطٍّ موازٍ، تسارع الحديث خلال الفترة القصيرة الماضية عن انسحاب غير معلن للرباط من «التحالف» الذي تقوده السعودية في اليمن. وعلى الرغم من عدم صدور تصريح رسمي بذلك، إلا أن تحدّث الصحف المغربية عنه، وتناوله من قبل الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، وخفوت التداول بأي خطوات مغربية ولو رمزية في اليمن، بالتوازي مع اتخاذ خطوات تضامنية نحو الدوحة التي أُخرجَت من «التحالف»، كلها معطيات أوحت بأن الرباط قد تكون آثرت، فعلاً، الانسحاب بهدوء، من دون إثارة ضجة إعلامية.