لا يعني حديث وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان عن حرب إسرائيلية على جبهات متعددة، بالضرورة، أنه يشير إلى قرار أو تقدير إسرائيلي بحرب على وشك الوقوع. لكنه لا يعني، أيضاً، أنه يتحدث عن خيارات نظرية مجردة. في المقابل، عكست مواقفه عن أن أي مواجهة عسكرية ستشمل الساحتين السورية واللبنانية، الصورة السوداوية التي تخيم على أجهزة التقدير والقرار في المؤسستين السياسية والأمنية، إزاء ما آلت إليه التطورات الإقليمية.
وكشفت أيضاً عن السيناريوات التي تتبناها المؤسستان العسكرية والاستخبارية إزاء أي مواجهة عسكرية واسعة على جبهتها الشمالية، كفرضية عمل. وهو تطور ميداني استراتيجي لم يكن حاضراً في حسابات المؤسسة الإسرائيلية، مع بدء الأحداث السورية، ويعكس حجم الخيبة من مسار التطورات الإقليمية والشمالية، وعمق المخاوف التي تهيمن على صناع القرار في تل أبيب، الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعبير العلني عن مستوى قلقهم الذي بات حاضراً في كل مقاربة للواقع الإقليمي والشمالي.

الإقرار بوحدة الجبهة يرتّب تقديرات مغايرة لكلفة أيِّ حرب قد تشنّها إسرائيل




ضمن الإطار نفسه، يندرج ما أدلى به ليبرمان، من موقعه كوزير للأمن، عن أن التقديرات السابقة حول ضآلة احتمال نشوب حرب لم تعد ذات صلة بالواقع، موضحاً أن «هشاشة الواقع» تعني أن أي مواجهة «قد تحدث بين لحظة وأخرى أو بين اليوم والغد». لكن هذا التفسير الذي «تبرع» به ليبرمان يؤكد، أيضاً، وجود إمكانية أن لا تحدث أي مواجهة. ويعود ذلك إلى أن كلا الطرفين يأخذ بكامل الجدية ردود فعل الطرف المقابل إزاء مبادرة أي منهما.
وقبل ذلك، تعود هذه «الهشاشة» إلى أن الساحتين السورية والإقليمية تمران في مرحلة انتقالية، لم تكن حاضرة كسيناريو مرجَّح في وعي الأجهزة المختصة الإسرائيلية وتقديراتها. بل تخشى تل أبيب ــــ وترجِّح ــــ أن تتوالى التطورات في اتجاهات أكثر خطورة على الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما يجعل التجاذبات على أشدها في مرحلة ما قبل اكتمال القضاء على «داعش»، الأمر الذي وضع تل أبيب أمام محطة مفصلية لبلورة الخيارات البديلة. ومما يكشف عن عمق القلق الذي يسيطر على مؤسسات صناعة القرار، أن تقديرات ليبرمان صورة ملخصة عن التقديرات السائدة في المؤسستين السياسية والأمنية التي باتت تهيمن على الواقع الإسرائيلي. ومما يؤكد هذه النظرة التشاؤمية، أيضاً، التقديرات التي أدلى بها العديد من القادة الأمنيين والسياسيين، في الأيام الماضية، وبمن فيهم ليبرمان نفسه الذي تحدث عن أن إسرائيل تواجه «شرقاً أوسط أسوأ بكثير من الشرق الأوسط القديم».
تأكيد ليبرمان أنه في حال اندلاع المعركة المقبلة «ستتحول فوراً إلى معركة على جبهتين»، لا يجسد فقط فشل الرهانات الإسرائيلية على الساحة السورية، وبالتالي عدم العودة إلى ما كان عليه الوضع سابقاً، بل يكشف أيضاً عن أن المسارات السياسية والعملانية تتحرك في اتجاهات تساهم في رفع مستوى التهديد الذي كانت تشكله الجبهة الشمالية على الأمن القومي الإسرائيلي. من هنا، يأتي تبني الجيش لسيناريو اتساع نطاق أي مواجهة لتشمل أكثر من ساحة وجبهة، بل هو «الفرضية الأساسية لدينا»، كما أكد ليبرمان.
ينبغي التذكير بحقيقة أن حديث وزير الأمن الإسرائيلي عن حرب على جبهة شمالية مشكّلة من سوريا ولبنان معاً، ليس موقفاً سياسياً نظرياً، ولا تقديراً أكاديمياً، بل مفهوم عملاني له انعكاساته على كافة مؤسسات القرار والتنفيذ في تل أبيب. على مستوى الجيش، يعني ذلك رفع مستوى الجاهزية والاستعداد بما لم تشهده إسرائيل منذ عقود. ويعني، أيضاً، تقديرات مغايرة لكلفة وجدوى أي حرب قد تشنها إسرائيل. وسيكون لكل ذلك حضوره ومفاعيله القوية في حسابات المؤسسة السياسية لدى درس خيارات الحرب، وهو ما سيعزز قدرة ردع حزب الله ومحور المقاومة.
أما بخصوص الجبهة اللبنانية تحديداً، فقد خصصه ليبرمان بمفهوم بات من أدبيات الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي. لكنه أتى هذه المرة وفق صيغة اعتبر فيها أن الجيش اللبناني بات جزءاً من منظومة حزب الله. ويبدو واضحاً أن موقف ليبرمان يعكس مدى السخط الإسرائيلي على أداء الجيش اللبناني وموقعه في المعادلة التي وفرت للبنان مظلة الاستقرار التي تميز بها عن محيطه طوال السنوات الماضية. ومن جهة أخرى يهدف صناع القرار في تل أبيب إلى قلب الصورة بهدف تأليب الرأي العام اللبناني على المقاومة التي برزت إلى جانب الجيش كقوة ردع ودفاع عن لبنان في مواجهة كافة التهديدات، وإلى التلويح بشرعية استهداف مؤسسات الدولة اللبنانية ومن ضمنها الجيش لمحاولة تعزيز قدرة الردع الإسرائيلية. ويأتي هذا الموقف تعبيراً إضافياً عن فشل إسرائيل في إخضاع لبنان. وهو ترجمة لقرار تبلور نتيجة الإقرار بالعجز عن حسم أي معركة مع حزب الله. لكن مشكلة الإسرائيليين تبقى هي نفسها، وهي أن قدرات حزب الله تطورت إلى المستوى الذي نصح فيه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في خطاب العاشر من محرم، الجمهور الإسرائيلي بـ«المغادرة والعودة إلى البلدان التي جاؤوا منها... لأن نتنياهو إذا شنّ حرباً في هذه المنطقة قد لا يكون لدى هؤلاء وقت حتى لمغادرة فلسطين، ولن يكون لهم أي مكان آمن في فلسطين المحتلة». تبقى ملاحظة أخيرة، هي أن مثل هذه المواقف عادة ما تكون تمهيداً لتوظيف سياسي ما، لذلك فهي تأتي عشية لقاء ليبرمان مع نظيره الروسي، الذي سيزور الأراضي المحتلة، وقبل توجه الوزير الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة للقاء نظيره الأميركي.