ظلال كثيفة على مستقبل المصالحة الفلسطينية وألغام يصعب نزعها بسهولة.هكذا تتبدى مخاوف وشكوك وتساؤلات حول مشروع إنهاء الانقسام الفلسطيني. المصالحة بذاتها ضرورية لإعادة اعتبار القضية الفلسطينية، التي نال منها بفداحة الانقسام بين غزة ورام الله، حتى بات الرأي العام الفلسطيني ضجراً من حركتي «فتح» و«حماس» معاً وشبه مكشوف أمام السياسات التوسعية الإسرائيلية، فلا يرى أمامه طريقاً يمضي عليه، أو أملاً في أن تفضي تضحياته ومعاناته الطويلة إلى انتزاع شيء من حقوقه التي أهدرت.

كما يقال ــ عادة ــ الشيطان يكمن في التفاصيل، فما هو ضروري ويستحق الإسناد قد يوظف لضربة قاتلة أخيرة.
أهم الأسئلة: ما المسار الذي قد تأخذه المصالحة الفلسطينية؟ ترميم البيت من الداخل حتى يكون بوسع الفلسطينيين أن يطرحوا من جديد قضيتهم العادلة على العالم كشعب تحت الاحتلال يعاني القهر والتمييز والعنصرية... أم تهيئة المسرح كله لفرض الاشتراطات الإسرائيلية وفق ما يسمى «صفقة القرن»؟
بمعنى آخر: بأي أفق سياسي سوف تستكمل المصالحة إجراءاتها وخطواتها المتفق عليها؟
في ما يشبه قطع طريق مبكر على مشروع إنهاء الانقسام، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يملي تصوراته وأفكاره على اللاعبين الفلسطينيين والضامن المصري قبل التوصل إلى أي تفاهمات متماسكة بالملفات الملغمة، التي من المقرر مناقشتها في القاهرة في وقت لاحق. أخطر تلك الملفات، وأكثرها حساسية وتعقيداً، مستقبل «سلاح حماس».
رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يطلب بوضوح، وربما كشرط مسبق «أن تكون هناك دولة واحدة بسلاح واحد ونظام واحد وقانون واحد» ــ كما قال لمحطة «cbc» المصرية قبل أن تجتمع في غزة ــ لأول مرة منذ فترة طويلة ــ حكومة التوافق الوطني برئاسة رامي الحمدالله بعد حل «اللجنة الإدارية» التي حكمت «حماس» من خلالها القطاع المحاصر.
ورئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية يرفض بالوضوح نفسه، وربما كشرط مانع أي نزع لـ«سلاح المقاومة»، الذي يختلف عن «نوع آخر من السلاح تحتكره الحكومة والشرطة وأجهزة الأمن».
رغم عمق المأزق وتعقيداته، فإنه يمكن تجاوزه بصيغة أو أخرى مثل تأجيله لمرحلة مقبلة حتى تتأكد حقائق المصالحة على الأرض، أو الاتفاق على أن يكون قرار الحرب والسلم للمؤسسات الوطنية المنتخبة لا لفصيل أو آخر.
قبل أي تفاوض فلسطيني ــ فلسطيني بحثاً عن مخرج توافقي من هذا المأزق، طلب نتنياهو علناً وأمام الكاميرات حلّ الذراع العسكرية لـ«حماس» كشرط أول لتقبل المصالحة.
الكلام واضح ولا يقبل أدنى لُبس، فالسلاح الفلسطيني ممنوع ومقتضيات الأمن الإسرائيلي أساس أي تقبل للمصالحة.
بحسب القوانين الدولية، فإن المقاومة حقّ مكفول للشعوب المحتلة، وهذا ما ينكر على الشعب الفلسطيني باسم أمن قوات الاحتلال!
أسوأ ما انطوت عليه «اتفاقية أوسلو»، التي وقعت عام ١٩٩٣، أنّها وفّرت نوعاً من «الاحتلال منخفض التكاليف»، فلا الأرض استعيدت ولا مشروعات الاستيطان توقفت ولا كانت هناك دولة.
كان المفاوض الإسرائيلي حريصاً على وضع توقيع منظمة التحرير الفلسطينية دون غيرها بتلك الاتفاقية، حتى يكون ذلك آخر أدوارها كتعبير عن وحدة الشعب والقضية، فلا صلة بعرب ١٩٤٨ خلف الجدار، ولا استعداد لأي نقاش حول «حق العودة» المنصوص عليه في قرارات دولية.
المعنى ــ هنا ــ وضع «حماس» تحت ضغوط اللعبة نفسها، اعتراف بإسرائيل بلا مقابل، كأنه عودة إلى صيغة «سلام بلا أرض» بتعبير المفكر الفلسطيني إدوار سعيد، أو «سلام الأوهام» بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.
لم يكن ذلك هو الشرط الوحيد، فقد لحقه بشرط ثان يطلب فيه أن تعترف «حماس» بإسرائيل، دون أن يرد على لسانه أي استعداد لالتزامات مقابلة، مثل «حلّ الدولتين»، أو الانسحاب من أي أرض محتلة، أو وقف الاستيطان، أو الاحتكام إلى أي مرجعيات دولية.
لا شيء على الإطلاق، وهذا ينبئ عن نوع «السلام» الذي يطلبه وفق موازين القوة الحالية، فالفلسطينيون يعانون من نزعات تهميش، والضامن المصري للمصالحة يرزح تحت وطأة أزماته، والعالم العربي ممزق، والإقليم كلّه خرائطه مهددة بسيناريوات التقسيم.
هذا النوع من السلام يلخص جوهر ما يسمى «صفقة القرن»، التي تقضي ــ وفق تسريبات إسرائيلية ــ بضمّ الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية للدولة العبرية، وإجبار أغلبية العرب على مغادرة القدس المحتلة بحيث لا يتبقى فيها أكثر من ١٠٪ من سكانها الحاليين والبحث عن أوطان بديلة للفلسطينيين، أحد سيناريواتها المعلنة في شمال سيناء، فضلاً عن ضم الجولان السورية إلى «إسرائيل الكبرى».
من هذه الزاوية، تكتسب التفاهمات الأمنية بين مصر و«حماس» قيمة استراتيجية مضافة حتى لا يصدر المأزق الديموغرافي إلى أي أرض مصرية وإعفاء الاحتلال من تبعات جرائمه.
ما يعنيه هذا النوع من السلام تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد، أو أن يعيش أهلها في «كانتونات» معزولة بلا اتصال في أراض أو سيادة على قرار.
إذا ما أطلق على ذلك الوضع اسم «دولة»، فإنها بلا أدنى مقومات تسمح لها بالقدرة على الحياة وتخضع ــ كما هي الحال الآن ــ لسلطة الاحتلال.
هل هذا هو المآل المحتمل للمصالحة الفلسطينية؟
حسب الخطاب الرئاسي في مصر، «هناك ضرورة لتأكيد صدق توجه الشعب الفلسطيني نحو السلام» ــ كأن المشكلة في الفلسطينيين لا في الاحتلال.
وحسب الخطاب نفسه، فإن «هناك فرصة سانحة لا يجب أن تضيع لاستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني».
ما الذي يجعلها سانحة؟! ووفق أي معطيات تطلق مثل هذه العبارات التي لا تستند إلى أي حقيقة، أو شبه حقيقة.
بالنسبة إلى قضية لها تاريخ طويل وشعب حيّ يؤمن بها ومستعد للتضحية دوماً، رغم ما يتعرض له من إنهاك وحصار وخيبات أمل، يستحيل أن تمر مثل هذه التسويات المجحفة، التي تستهدف تطبيعاً مجانياً مع العالم العربي اقتصادياً واستخبارياً وعسكرياً وإضفاء دور جوهري في معادلات وتفاعلات الإقليم على إسرائيل ــ كأننا نعطيها مزيداً من أسباب القوة بالمجان.
طبقاً للرؤية الأمنية الإسرائيلية، كان الشرط الثالث لنتنياهو لعدم ممانعته في المصالحة الفلسطينية هو قطع العلاقات مع إيران ــ كأنه يطلب توظيفها لمقتضى كامل استراتيجياته في الإقليم. هذه كلها «صكوك استسلام» مجانية مطلوبة مقدّماً.
التحدي الحقيقي الآن هو تجنب «الشراك الإسرائيلية» وعدم تمكينها من إخضاع المصالحة الضرورية لعكس ما يطلبه الفلسطينيون العاديون، أن تكون طوق إنقاذ لا حبل مشنقة.
* كاتب وصحافي مصري