صراخ إسرائيل وتهويلها إزاء الساحة السورية لا ينقطعان. وهي تتفنّن في وضع الخطوط الحمر وإطلاق التهديدات، بل وأيضاً الاعتداءات المحدودة نسبياً على دلالاتها، علّها تدفع أعداءها إلى التراجع، وعلّها تدفع حليفها و«صديقها» أيضاً إلى التراجع.
وصراخ إسرائيل موجه إلى ساحتَي لبنان وسوريا المترابطتين رغم اختلافهما، من ناحية تل أبيب، إن لجهة القدرة أو لجهة التنفيذ، أو لجهة الفرضيات. الأولى ممتنعة بالكامل، أقله حتى الآن، والثانية، تحمل من الفرضيات النظرية، ما يؤمل إسرائيل ويدفعها إلى مواصلة صراخها.
من ناحية لبنان، توجد حقيقة حيّة وملموسة وقطعية، في المعادلة القائمة بين الجانبين: إسرائيل مردوعة عن الساحة اللبنانية. وهي حقيقة يقرّ بها العدو، عملياً وليس فقط كلامياً، منذ سنوات، ولا ينكرها إلا مكابر.
الحقيقة الثانية والقائمة أيضاً والملموسة، من ناحية الساحة اللبنانية، أن العدو يهدد حزب الله ولبنان، بل وامتهن التهديد، إلى الحد الذي بات يتفنن في عباراته. لكن، في المقابل، لم يرق هذا التهديد، للتعذر، إلى أفعال عدائية في الحد الأدنى من أدنى التهديدات الإسرائيلية الكلامية المساقة ضد حزب الله ولبنان. وماذا يعني أن تكون مردوعاً، وتهدّد؟ سؤال يستأهل كثيراً من التأمل.
نعم، الردع لا يمنع حرباً إسرائيلية بالمطلق، لكنه منعها إلى الآن. وهذه هي إحدى الحقائق التي لا جدال فيها. وفي موازاة ذلك، التهديد والتفنن في التهديد، يشيران إلى محدودية الخيارات العملية، وإلا لا داعي للتهديد، وهذه أيضاً حقيقة ثالثة.
في الساحة السورية، المسألة قد تكون مختلفة نسبياً. المعركة بين إسرائيل وأعدائها باتت تتركز بشكل أساسي في هذه الساحة وعليها، لكن بما يتعلق باليوم الذي يلي الانتصار العسكري للدولة السورية وحلفائها، بعدما سلمت قهراً بهذا الانتصار. المعركة الحالية قائمة وموجهة على ما يمكن أن يترتب على الانتصار من تهديدات، إسرائيل معنية بمنع تشكله أو تقليصه أو الحد من تداعياته. كل ما يصدر عن إسرائيل من تهديد وتلميحات وفرضيات، موجهة تحديداً للحد من هذا التهديد.
لكن هل تنجح مساعي إسرائيل؟ سواء اعتقدت ذلك أو لا، هي غير قادرة على الوقوف بلا حراك، وبما يشمل الصراخ والتهديد، وكذلك أيضاً خطوات عملية من هنا وهناك، في حدود الاستطاعة وضمن الضوابط التي لا تسمح لها بتخطي الظروف الموضوعية القائمة في الساحة السورية.
حديث إسرائيل وتهويلها، وكذلك تهديداتها المتكررة، الموجّه في الأساس إلى أعدائها في الساحتين اللبنانية والسورية، هو حديث موجه أيضاً، وبالموازاة، إلى حليفها الأميركي، وأيضاً إلى «صديقها» الروسي. إنه في حال عدم تحقق مصالحها أو امتناع التهديد عنها، في اليوم الذي يلي الانتصار الميداني لأعدائها، فهي قادرة ومتوثبة، للتأثير سلباً، بما يمكن أن يضرّ بالتسوية المتبلورة بين روسيا وأميركا، المبنية لأسف إسرائيل، على الانتصارات الميدانية نفسها. لكن هل تستطيع فعلاً؟ المهمة قد تكون أكبر بكثير من قدراتها الفعلية.
بالطبع، لا يرضي إسرائيل ويطمئنها، استراتيجية أميركا المبنية على مرحلة ما بعد الحرب في سوريا، وأنها بحسب مستشار الأمن القومي الأميركي، هربرت ماكمستر، في كلمة ألقاها قبل أيام في «معهد لدراسة الحرب» في واشنطن، قررت مواجهة الرئيس الأسد وإيران وحزب الله في سوريا، من خلال «رصد مبالغ طائلة لإعادة إعمار سوريا ولن تصرف في المناطق التي يسيطر عليها الأسد والإيرانيون». وهذه استراتيجية، من منظور إسرائيلي، وهي كذلك، مبنية على واقع التسليم بالانتصارات الميدانية التي لا تمنع تشكل التهديد على إسرائيل، بالمستوى الذي يمكنه أن يتشكل.
كذلك من ناحية «الصديق» الروسي، الذي وإن كان لا يعارض تحقيق مصالح إسرائيل مبدئياً، لكنه في الوقت نفسه غير قادر، ولا يرغب، في تحقيق هذه المصالح على حساب مصالحه هو، المرتبطة حالياً، وإلى حد بعيد في مرحلة ما بعد القتال المباشر، بمصالح أعداء إسرائيل في الساحة السورية، التي لا تقتصر فقط من ناحية تل أبيب على الوجود الإيراني وحزب الله، بل أيضاً على إعادة ترميم الدولة السورية مقدراتها العسكرية، التي عدت من ناحيتها خطاً أحمر، كما ورد عن نتنياهو نفسه في الأسابيع الماضية.
إذاً، إسرائيل غير قادرة بقدراتها الذاتية على تحقيق مصالحها للتعذر. وكذلك الحال من ناحية الأميركي، الذي يتعذر عليه تحقيق ذلك، علماً بأن المصلحة جارفة لديه، فيما «الصديق» الروسي، غير قادر ولا يرغب.
تشير صحيفة «واشنطن بوست» (28/09/2017) الى أنّ «السفينة أبحرت بالفعل»، وأنّ الاستراتيجية الأميركية لمواجهة إيران وحزب الله في سوريا، باتت في «عداد المفقودين»، وألقت اللوم على الإدارة الأميركية السابقة، إدارة الرئيس باراك أوباما، التي أهدرت كل الفرص المتاحة للتأثير في الساحة السورية، وامتنعت عن تشكيل قوة سورية ميدانية غير «قوات سوريا الديموقراطية»، قادرة على فرض الحقائق الميدانية، ولاحقاً على طاولة المفاوضات والحل النهائي.
بإمكان إسرائيل، في المقابل، أن تلقي اللوم على استراتيجيتها السابقة في سوريا، التي راهنت من خلالها على إمكان، بل حتمية، سقوط الدولة السورية، وتبعاً لها، سقوط حزب الله. أمّا التطلع لتحقيق المصالح رغم انكسار الرهانات، فهي مهمة مستعصية، وهي في حد أدنى صعبة ودونها عقبات جدية. ولعل ذلك ما يفسر مستوى وحجم وصدى الصراخ، الأكبر بكثير من الأفعال.