مرة جديدة، تتزحزح السلطات الكويتية عن خط التوازن الذي تكبح من خلال وقوفها فيه جماح التيارات السلفية الوهابية داخل البلاد، وتحفظ استقرار النسيج الاجتماعي المتنوع، مانحة الأقليات، «المضطهدة» في «شقيقتها» السعودية، قدراً معقولاً من حرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية.
حرية، على تواضعها، لا تحتمل وجوه التيارات المتشددة رؤية تجلياتها، خصوصاً في المواسم الدينية. «عاشوراء» في مقدمة تلك المواسم التي تتجدّد أيامَها فصول «التحريض»، واضعة الحكومة الكويتية أمام خيارَين: إما الانصياع، وإما الاستعداد لـ«قصف» سلفي وهابي سرعان ما يأتيه المدد من السعودية.
هذا العام، كان الكويتيون على موعد مع حملة «تفتين» جديدة قادها نواب التيار السلفي، وفي مقدمهم وليد الطباطبائي ومحمد هايف المطيري. ضاق هؤلاء بـ3 دعاة هم منير الخباز (سعودي) وفاضل المالكي (عراقي) وباقر المقدسي (عراقي)، قدِموا إلى الكويت لإلقاء محاضرات على مدار 10 أيام ضمن مراسم «عاشوراء».
لم تكن حجة الطباطبائي والمطيري في التشنيع على الدعاة الثلاثة والمطالبة بطردهم سوى أن «لهم سوابق في سبّ صحابة النبي وأحياناً سبّ زوجته عائشة» وفق ما ادّعى، علماً بأن الخباز، على سبيل المثال، يُعدّ من الوجوه المعتدلة، ولطالما ألقى محاضراته «العاشورائية» وغيرها من داخل منطقة الأحساء نفسها، على عين السلطات السعودية الأكثر تشدداً من نظيرتها الكويتية، بينما لم يثبت على الداعيَيْن الآخرين ما يؤيد صحة ادّعاءات السلفيين، لكن ذلك لم يحل دون دعوة وزارة الداخلية إلى «إيقاف من عُرفوا بالزندقة، وترحيلهم عن البلاد، وكفّ بذاءاتهم في هذه الأيام الفاضلة والشهر الحرام عن أمهات المؤمنين والصحابة الكرام»، بحسب تعبير المطيري.

كان الكويتيون على موعد
مع حملة «تفتين» جديدة
قادها نواب التيار السلفي

المفارقة أن الوجوه السلفية التي تصدّرت هذه الحملة هي نفسها من أعلنت حرباً كلامية، قبل سنوات، على الحكومة الكويتية، بعدما منعت الأخيرة الداعية السعودي المتطرف، محمد العريفي، من دخول البلاد. حينها، وصف النواب السلفيون قرار الحكومة بـ«المتخبّط وغير المدروس»، مطالبين بإلغائه «درءاً للفتنة»، بل بلغ الأمر حدّ التلويح بأنه «إذا تم منع دخول العريفي إلى البلاد فلدينا قوائم سوف نطالب بمنعها من الدخول»، والتهديد بأن «أيّ منع سيواجه بقوة حماية لمعتقداتنا ولرجال الدين الأجلاء».
ليس غريباً إذاً، على ضوء تلك المفارقات، أن يشنّ السلفيون هجومهم الأخير، كذلك ليست خافية خلفيات ذلك الهجوم والأغراض المتوخاة من ورائه. لكن علامة الاستفهام الكبرى ترتسم حول موقف الحكومة الكويتية التي سارعت، بعد مرور ليلتين فقط من ليالي مراسم «عاشوراء»، إلى الاستجابة لمقتضيات الحملة، مُبلِغة، عبر وزارة الداخلية، الدعاة الثلاثة بضرورة مغادرة الكويت. وحتى لا يبدو الأمر كأنه تجاوب مع دعوات الطباطبائي والمطيري وغيرهما، جاء الإعلان عنه عبر تسريبات نشرتها صحيفة «الجريدة» الكويتية.
تسريبات سرعان ما استبشرت بها المنابر الإعلامية الموالية للسعودية، بادئة ما ظهر أنه فعل احتفاء وتهليل لقيام الكويت بطرد ثلاثة «محرّضين»، بدعاوى ذهبت إلى أبعد ممّا احتجّ به النواب السلفيون؛ إذ ألصقت وسائل الإعلام السعودية بالدعاة الثلاثة صفة «المواقف الطائفية والتحريضية والإساءة للتعايش بين الطوائف». ولم يفت تلك الوسائل، طبعاً، التشديد على ارتباط مزعوم بين المطرودين وإيران التي «تتخذ من احتفالات عاشوراء مناسبة للتحرش بالكويت»، علماً بأن الدعاة المطرودين تبرز أسماؤهم في مجالات النشاط الديني الدعوي البحثي الخطابي، ولا صلة لهم بالممارسات السياسية.
على المقلب الكويتي، برزت ردود فعل مندّدة من قبل شخصيات ورجال دين، كان أبرزها بيان صدر باسم «علماء الكويت»، طالب الحكومة بالرجوع عن قرارها إبعاد «جمع من خطباء المنبر الحسيني»، داعياً «أهل الحكمة والعقلاء في الحكومة إلى أن لا ينسحبوا إلى مثل هذه الأفعال التي يقف وراءها الطائفيون»، محذراً من أنه في حال الاستمرار في القرار «فإننا كعلماء سنتخذ كافة الإجراءات... لحماية الحقوق الدستورية الوطنية بإقامة الشعائر الدينية». ودان نواب في البرلمان الكويتي، بدورهم، قرار الطرد، معتبرين أن «معاداة الشعائر الحسينية جاءت في فترة التزوير والتجنيس السياسي»، محذرين من أنه في حال الاستمرار في هذا النهج، فإن القادم سيكون «خطيراً».
تحذيرات لا يبدو أنها بعيدة من الواقع، في ظل تعاظم النفوذ الذي يتمتع به التيار السلفي في الكويت، وتواصله الحيوي مع الوهابية السعودية، في ارتباط عضوي تجلّت آخر مظاهره عقب «مؤتمر غروزني» الشهير، حيث بادر سلفيّو الكويت إلى عقد مؤتمر مضاد دعوا إليه سلفيين من غير دولة، في مقدمها السعودية، قرروا في ختامه أن «السلفيين هم أهل السنّة»، وأن «ما عداهم من الفرق فرق ذمّها رسول الله»، رافضين نسبة الجماعات المتطرفة إلى «شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب».
إزاء ذلك، تظهر السلطات الكويتية أمام تحدي الحفاظ على «الوصفة» التي حمت بها، في ما مضى، التنوع الديني في البلاد، وأبقت هامش الحريات الذي تتمايز به عن بقية «شقيقاتها» في الخليج على قيد الحياة. هامش دائماً ما يتعرض لاختبارات يضيق من خلالها أو يتسع، إلا أن السنتين الأخيرتين أظهرتا أن حجم التماهي مع السياسات السعودية الرافضة لأي فعل سياسي معارض بلغ مستوى قد ينسف «الصيغة» الكويتية، مع ما من المحتمل أن يؤدي إلى تبعات على الأمن والاستقرار.