الجزائر | نشرة أخبار الثامنة مساء على التلفزيون الجزائري ليوم الأربعاء الثامن من تموز/ جوييه تعرض أخباراً متفرّقة: موجة الحرّ التي أصابت البلاد، مدن الجزائر التي أحيتها ليالي رمضان من سبات طويل... قبل أن تعرض صوراً لاجتماع وزير الداخلية الذي انتقل إلى مدينة غرداية «المشتعلة»، وانتقل معه مسؤولون من الأمن لمتابعة «الأحداث» في المنطقة، ثم يأتي الإعلان عن الاجتماع الطارئ الذي دعا إليه الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لدراسة الأزمة، بعدما اندلعت مواجهات جديدة هذا الأسبوع، خلّفت أكثر من 20 قتيلاً، وعشرات الجرحى.
مدينة غرداية، 600 كلم جنوبي الجزائر العاصمة، التي يمكن اعتبارها جغرافياً بأنّها باب للصحراء الجزائرية، والمعروفة بأنّها منطقة تجارية نشطة، بُنيت منذ ما يقارب عشرة قرون (بحسب الروايات) من طرف المزابيين الإباضيين والذين يشكلون أغلبية السكان إلى جانب «العرب» أو الشعانبة الذين استقروا في المدينة بعد الاستقلال.
منذ سنوات، تشهد المدينة اشتباكات بين هاتين الجماعتين، وأعمال تخريب للممتلكات، لتصل الأمور في سنة 2014 الى ذروتها، بسقوط عشرات القتلى والجرحى وتحرّك عدد كبير من قوات الشرطة والدرك الوطني لـ"إعادة الهدوء والاستقرار"... لكن الحلّ الأمني الذي يجعل الأمور تهدأ نسبياً لم يكن كافياً، والدليل في عودة الاشتباكات. تشتعل الأمور بمجرّد تلاسنٍ أو خناق بين الشباب.
ما تشهده غرداية اليوم، شهدناه بشكل أو بآخر في مناطق أخرى

الحديث هنا عن «جزائريين» بعيداً عن التقسيم. لكن لفهم الأمور، وجب علينا التفصيل وعرض الأحداث ووجهات النظر، وعدم السقوط في ما تفعله أغلب وسائل الإعلام الجزائرية، وهو أن ترد السبب إلى مؤامرات خارجية، وأطراف تريد زعزعة استقرار البلاد، رافعة شعارات شعبوية ومقولات بروباغندا جاهزة، من دون العودة الى جذور الأزمة ودراستها تاريخياً لتستنتج من الحاضر الأسباب الفعلية التي تطوّرت بسببها «الأزمة».
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسكان في غرداية، هي ما يجب البدء به، وبخاصة عند العرب الشعانبة، ثم محاولة فهم المجتمع المزابي المحافظ وهيكلته والتكافل الاقتصادي الذي يعتبره عموده الفقري وممارسته للتجارة التي تعود إلى قرون مضت. ثم يأتي الحديث عن المنطقة ككل، وكل ما يحيط بها من خطوط تهريب سرية وسط الصحراء والعمليات السابقة التي أديرت في المنطقة، ليس فقط في غرداية (باب الصحراء) بل في كل الصحراء التي تبلغ مساحتها 2 مليون كلم مربّع... طبيعة السكّان المحيطين بالمنطقة، منذ الاستقلال عام 1962، ثم بعد «الحرب الأهلية» في التسعينيات وربطاً بهذا أيضاً، مستواهم المعيشي والاقتصادي في الصحراء والهياكل المتوفّرة والبنى التحتية التي بُنيت منذ الاستقلال، فالصحراء في الجزائر بعيدة عن المركز من حيث الجغرافيا ومن حيث «التهيئة» (بمعنى البنية التحية).
عندما نحلّل كل هذه الأسباب، نلتفت إلى المدّ الوهابي في مساجد المنطقة (الموجة التكفيرية التي تمكّنت من بعض المنابر)، وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات التي يديرها شباب انساقوا وراء هذه الدعوات ومضوا، بدورهم، في التكفير والمناداة به. وهنا يأتي الكلام عن المؤامرات والأيادي الخارجية، وليس قبل أن نلتفت إلى أصل المشكل من الداخل.
بعض الحقوقيين والناشطين نادوا على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال مشاركتهم في بعض البرامج التلفزيونية بضرورة التحرّك العاجل، آخذين بعين الاعتبار مصلحة الجزائر أولاً وقبل كل شيء؛ الجزائر بتنوّعها والتعامل مع كلّ الأطراف من دون تفرقة وتصفية حسابات مذهبية، وأن يكون التعامل صارماً في حدود القانون. وأن تتّم، أيضاً، متابعة الأشخاص الذين يدعون إلى العنف على شبكات التواصل الاجتماعي (وقد وصلت أنباء فعلاً حول توقيف البعض منهم)، وتوقيف كل الأشخاص الحاملين للأسلحة غير المرخّصة. باختصار، كانت كل الدعوات ترمي إلى ضرورة تطبيق القانون والعدالة على الجميع «مهما كانت انتماءاتهم» لأنّ التعامل يكون مع مواطنين جزائريين، من قِبل دولة وليس قبيلة أو طائفة، ولأن حصيلة الأسبوع التي تجاوزت العشرين قتيلاً تنبئ بما هو أعظم.
ما تشهده غرداية اليوم من أزمة، شهدناه بشكل أو بآخر في مناطق أخرى من الجزائر، وكان السبب دائماً يعود لأسئلة كبرى حول الهوية، التي تمّ تجاهلها منذ سنين، لتتراكم فوقها أشياء كثيرة وتنفجر، وذلك ما أنتج أصواتاً تطالب بالانفصال من هنا وهناك، فيتمّ الرّد عليها بـ"لا نقبل بمن يمسّ بوحدة الجزائر" وبحملات تشهير في الصحف، وكفى!
لا إجراءات صارمة، ولا تحقيقات كبرى تُفتح لمحاسبة كل الأطراف المتورطة في أعمال العنف والقتل، ثم تتم «تهدئة» الأوضاع باجتماع صُلح، يجمع بين رؤساء القبائل والأشراف والحكماء في مشهد فولكلوري، لتهدأ الأوضاع قليلاً قبل أن تعود إلى الاشتعال. كلّ ذلك ولا تجري المساءلة حول تلك الإجراءات والتسييرات الإدارية «القبلية»، والتي تواصل ــ بلا وعي ربما ــ سياسة فرّق تسد.
نحن حتى اليوم نرفض النظر إلى الواقع، إلى غرداية، وبخاصة عندما نقرأ ونرى في «قنوات خاصة» أشخاصاً يتكلّمون ليل نهار عن «الأيادي الخارجية» والأسباب الخارجية، متغاضين عن كل ما يحدث داخل البلاد من موجات التكفير الوهابية التي تنتشر كالسرطان، وعن كل الأسباب التي تمّ ذكرها أعلاه، وعن كل ما يحدث من تصفية حسابات سياسية ومذهبية وعرقية، وسط تأجيل لفرض القانون ومحاسبة المذنبين.
عموماً، فإنّ خطوة تدخل الجيش أمر جيد، ولكن كخطوة أولى. لذلك سننتظر لنرى ماذا سيحدث بعدها من خطوات. صحيح أن غرداية تبعد 600 كلم عن العاصمة ــ وهي مسافة كبيرة لمن لم يعتد المسافات الطويلة ــ لكن الخوف يكمن في أنّها ليست بعيدة كما نعتقد.