لم تنجح سياسة التهويل التي اعتمدها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ومعه رئيس حكومة العدو الإسرائيلي، بنيامن نتنياهو، من على منصة الأمم المتحدة، في ثني إيران عن مواصلة إنتاج صواريخها التي تصل إلى فلسطين المحتلة، وتطويرها. نتيجة ذلك ترددت أصداء تجربة صاروخ «خورمشهر» البالستي في تل أبيب، ودفعت نتنياهو إلى عقد جلسة عاجلة للمجلس الوزاري المصغر (الكابينت) لبحث مفاعيل هذه الخطوة التي رأت فيها تل أبيب، على لسان وزير الأمن افيغدور ليبرمان، تحدياً واختباراً لها ولواشنطن.
وعكست ردود الفعل الرسمية وغير الرسمية منسوب قلق إسرائيل من تمسك إيران بخياراتها الإقليمية والنووية والعملية، ورأت في استمرار التجارب الصاروخية دليلاً إضافياً على صحة موقفها المعارض للاتفاق النووي (الموقف الإسرائيلي من مجمل الاتفاق مركب لجهة ما ينطوي عليه من تهديدات وفرص محتملة). وكانت تل أبيب قد جاهرت بمعارضتها الاتفاق انطلاقاً من غياب القيود فيه على قدرات إيران الصاروخية، وكذلك على سياساتها الإقليمية ودعمها حزب الله وحركات المقاومة، وهو ما لم يتطرق الاتفاق إليه بفعل الخطوط الحمراء التي فرضها آنذاك مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، حول حصر المفاوضات في الملف النووي.

جلسة خاصة لـ«الكابينت»
لبحث تداعيات الصاروخ
الإيراني البالستي


هذا الموقف الإيراني الحازم أدى إلى حشر الإدارة الأميركية بين خيارين: القبول بهذا السقف التفاوضي، أو تعثر مساعي التوصل إلى اتفاق. في ذلك الوقت، أصرت إسرائيل على ضرورة أن تقابل إدارة باراك أوباما الموقف الإيراني بموقف مضاد حازم، على أمل أن يؤدي ذلك إلى استمرار العقوبات وإمكانية تدحرج الأمور نحو سيناريوات كانت تراهن على أن تتطور باتجاه مواجهة عسكرية. لكن إدارة أوباما حرصت على تجنب هذا السيناريو الذي رأت فيه إمكانية لتطور الأمور نحو مواجهة واسعة تؤدي إلى تورط الولايات المتحدة من جديد في المنطقة.
وتنبع المخاوف الإسرائيلية أيضاً من إدراكهم حجم التطور العلمي الذي تشهده الجمهورية الإسلامية، وبدا ذلك على لسان كبار القادة العسكريين والاستخباريين، وآخرهم نائب رئيس أركان الجيش يائير غولان (تقاعد قبل أشهر من منصبه) في كلمة أمام مؤتمر أمني لـ«معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى» (7/9/2017)، حينما قال: «يجب الاعتراف، الإيرانيون أكثر تطوراً. وتملك (إيران) بنية تحتية أكاديمية، وصناعة جيدة، وعلماء جيدين، لذلك هم أشد خطورة، وفي رأيي لن نتمكن من مواجهتهم وحدنا». وقبله حذّر رئيس «الاستخبارات العسكرية»، اللواء هرتسي هليفي، من مفاعيل التطور العلمي الإيراني، مؤكداً وجود «حرب تكنولوجية (بين إيران وإسرائيل)... ومهندسونا يقاتلون المهندسين الإيرانيين اليوم، وستتحول إلى أكثر ضراوة لاحقاً»، لافتاً إلى أن «إيران تلحق بنا وبسرعة» (راجع العدد ٢٧٣٠ في ٢ تشرين الثاني ٢٠١٥).
وتعكس ردود الفعل الإسرائيلية، على المستويين الرسمي والخبراء، أن مخاوفهم لا تنحصر فقط في القدرات الحالية للجمهورية الإسلامية، بل ما يقضّ مضاجعهم مسارها التصاعدي على المستوى العلمي والعسكري والصاروخي. كذلك، ما يقلق تل أبيب أن هذا التطور يجري في ظل نظام إسلامي يتبنى خيار إزالة إسرائيل من الوجود، عبر دعم شعوب المنطقة المحيطة بفلسطين، وذلك بتعزيز قدراتهم الردعية، كذلك إن استمرار التطور الصاروخي سينعكس مزيداً من القوة لحلفاء إيران في مواجهة أي تهديد إسرائيلي. من هنا، تضع الأجهزة الإسرائيلية متابعة تطور القدرات الإيرانية على رأس اهتماماتها، وتتردد أصداء كل كشف عن قفزة علمية وعسكرية في تل أبيب، ثم يبادر المسؤولون والخبراء فيها إلى إطلاق المواقف والتحذير من أن الآتي أعظم، وصولاً إلى الدعوة المتكررة إلى ضرورة الاستعداد لإيران المستقبل، وبلورة خيارات عملانية تتلاءم مع حجم التحدي الذي تشكله على الأمن القومي الإسرائيلي.
المخاوف التي ترددت في تل أبيب من تجربة «خورمشهر» تنطلق من أنها تشكل محطة متقدمة في سياق تطور صاروخي يفاقم مستوى الخطورة على التفوق التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي، ومن ضمنها ما ذكره معلق الشؤون العسكرية في القناة العاشرة، حينما قال إن كون الصاروخ يحمل ثلاث رؤوس فهو يشكل تحدياً جدياً لمنظومة الاعتراض الصاروخي الإسرائيلي.
التجربة الصاروخية تؤكد في هذا السياق أن كل رسائل التهويل والتهديد بنقض الاتفاق لم تنجح في ردع إيران عن مواصلة هذا المسار التطوري، وهو ما يضع واشنطن وتل أبيب في موقع حرج، ويدفعهما إلى دراسة خياراتهما البديلة حول ما يجب فعله في مواجهة الجمهورية الإسلامية، لتحقيق أهداف عدة: إعادة تعديل الاتفاق بما يلبي المخاوف الإسرائيلية على المستوى النووي، وكبح تطورها الصاروخي، ووقف دعم حزب الله وسوريا وحركات المقاومة في المنطقة. على هذه الخلفية، أتى موقف رئيس حزب «البيت اليهودي»، وعضو «الكابينت»، نفتالي بينت، حول ضرورة العمل مع الولايات المتحدة من أجل تفعيل العقوبات على إيران، لكونها المسيطرة على منظومة نقل الأموال الدولية. وصولاً إلى وضع طهران أمام منعطف حاسم: إما أنها تريد اقتصاد مزدهر، وإما الاستمرار في سياستها النووية.
مع ذلك، العوامل التي زادت إدراك إسرائيل تفاقم الخطر الإيراني، على المستويين الصاروخي و«التطور النووي»، تعود أيضاً إلى فشل رهاناتها في الساحة السورية والانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه، لأن ما حدث يؤسس لواقع ومسار إقليمي يؤدي إلى إسقاط مساعي تطويق حزب الله وخنقه تمهيداً لإضعافه، ومن جهة أخرى، إلى تعاظم قدراته الدفاعية والردعية. ويؤدي أيضاً إلى تبلور تواصل بري بين إيران وسوريا وحزب الله، مروراً بالعراق، مع ما ينطوي على ذلك من تداعيات استراتيجية وإقليمية، وانعكاسه على معادلات الصراع مع إسرائيل.
من منظور إسرائيلي، «الاتفاق النووي» المقيد زمنياً، الذي وفّر لإيران اعترافاً دولياً، وهامشاً واسعاً في مواصلة التطور النووي، إلى جانب انتصار محور المقاومة في سوريا والمنطقة، أدت كلها إلى وضع إسرائيل والمحور الغربي الإقليمي أمام واقع استراتيجي إشكالي. فكل خطوة تقدم عليها إيران في السياق النووي والصاروخي والإقليمي، تقاربها إسرائيل انطلاقاً من أنها جزء من مشهد أوسع، عبّر عنه جهاز «الموساد» خلال تقدير الوضع الذي قدمه إلى الحكومة قبل أكثر من شهر، محذراً من أن «المنطقة تتغير في غير مصلحتنا». وفي مواجهة هذا المسار، تعمل إسرائيل على أكثر من مسار، دولي ــ أميركي، وإقليمي، بتعزيز التحالف مع معسكر «الاعتدال العربي»، وأيضاً بناء وتطوير خيار عملاني عسكري يتلاءم مع حجم التحدي الذي تشكله إيران ومحور المقاومة في المنطقة.