من جديد يُسدّد أبناء مدينة حلب فاتورة المعارك الدائرة في مدينتهم على شكل حرمانهم الكهرباء ومياه الشرب. وعلى الرغم من أن واقع المدينة لم يكن في حال جيّدة على هذا الصعيد قبل الهجمات الأخيرة التي شنّتها «غرفة فتح حلب» في منطقة البحوث العلميّة، لكن الخدمات كانت متوافرة في حدّها الأدنى، وبتقنين كبير. العملية الأخيرة نقلت الأوضاع إلى مرحلة انعدام التغذية الكهربائيّة، وبالتالي انقطاع مياه الشرب انقطاعاً تامّاً منذ أكثر من أسبوع. وكما هو معروف، يرتبط ضخ مياه الشرب بصورة وثيقة بتغذية محطات الضخ بالتيار الكهربائي.
وفي حالة حلب، فإن محطّة ضخ سليمان الحلبي (واقعة في مناطق سيطرة «جبهة النصرة») هي المسؤولة عن ضخ مياه الشرب (إلى كل أحياء المدينة، الغربيّة الواقعة تحت سيطرة الدولة، والشرقية الواقعة تحت سيطرة المسلّحين). كانت تغذية المحطّة بالتيار الكهربائي تجري عبر الشبكة السورية العامة، حيث يصل التيار من حماه إلى محطة الزربة (جنوب حلب)، قبل أن يدخل حلب ويُوزَّع عبر «محطّة حلب واو» في منطقة البحوث العلمية، ليصل الجزء اللازم من التيار إلى محطة سليمان الحلبي، عبر محطة تحويل كهرباء رعاية الشباب - الصاخور. وتوضح مصادرُ مواكبةٌ للملف لـ«الأخبار» أنّ «الأمر مرتبطٌ في الدّرجة الأولى بتوقف عمل المحطة المعروفة باسم محطة حلب واو عن العمل». تقع المحطة المذكورة على مقربةٍ من مباني «البحوث العلميّة» على مشارف حي حلب الجديدة. وتُعتبر بمثابة «غرفة العمليات المركزيّة لكهرباء حلب، وبالتالي لضخ مياه الشرب». ووفقاً للمصادر فإنّه «لا بديل من هذه المحطّة، ولا يمكن تعويض توقفها عن العمل عبر محطات أو وسائل أخرى». وكانت المحطة المذكورة قد تعرّضت لاستهداف مُكثّف ومُركّز بصواريخ «حركة نور الدين الزنكي» خلال المعارك الدائرة في المنطقة. علاوةً على الأضرار الكبيرة التي طاولت شبكة الكابلات الخارجة والداخلة، حاول الوسطاء الوصول إلى اتفاق إسعافي يقضي بتفعيل حل قديم، يقوم على تشغيل محطة ضخ سليمان الحلبي اعتماداً على الديزل. وهو أمر يتطلّب إدخال كميات من المحروقات إلى مناطق سيطرة «جبهة النصرة»، لتقوم الأخيرة بتشغيل المحطّة. أفلحت الجهود، وقامت منظمة الهلال الأحمر السوري بإدخال نحو 30 ألف ليتر من المازوت إلى المنطقة، وهي كمية كافيةٌ لتشغيل مولّدات الكهرباء المسؤولة عن تغذية المحطة قرابة 35 ساعة عمل، لكنّ المفاجأة كانت أن عمليات ضخ المياه لم تستمر سوى عشر ساعات، قبل أن تعود المحطة إلى التوقف عن العمل. وفي ظل عدم تقديم الجهات المعنيّة بالملف أي تفسير لهذا التوقف، فمن المرجّح أن الأمر تكرارٌ لسيناريو سابق، خلاصته قيام «النصرة» بتخصيص جزء بسيط من المازوت المُدخل لتشغيل المحطة، وتجيير الكمية الأكبر لأغراض أخرى لا تتعلّق بالمحطّة (مثل بيعها، أو استخدامها في تشغيل آلياتها).

... واتفاق معلّق

أفلحت جهود الوسطاء في الوصول إلى حل بديل يضمن تشغيل محطة ضخ سليمان الحلبي، لكنّ تطبيق اتفاق الحل ما زال معلّقاً. وينص الاتفاق على قيام مؤسسات الدولة بتغذية محطة كهرباء الزربة عبر الشبكة السورية العامة بكمية 20 ميغا لتغذية مناطق أرياف حلب الجنوبية (خاضعة لسيطرة المسلحين).

أفلحت الجهود
في الوصول إلى
حل، لكنّ تطبيقه
ما زال معلّقاً
وفي المقابل، تلتزم «جبهة النصرة» تشغيل مضخات مياه سليمان الحلبي عبر وصلها بالتغذية الكهربائية من المحطة الحرارية عبر محطة كهرباء الصاخور. لاحقاً للوصول إلى هذه الصيغة (التي وافقت عليها كل الأطراف على الأرض، ومن كل الجهات) امتنعت وزارة الكهرباء عن تزويد محطة الزربة بالكمية المطلوبة. واشترطت قبل ذلك السماح لعمّال الصيانة بدخول «المحطة واو» وإصلاحها، وهو أمرٌ يكاد يكون مستحيلاً في ظل الظروف الرّاهنة، إذ يتطلّب توقف الاشتباكات، أو توافق طرفَي المعارك على هدنةٍ تسمحُ بإجراء الإصلاحات. لكنّ ظروف المعركة هناك لا تشي بإمكانية الوصول إلى أي هدنة مماثلة في ظل إصرار كل من الطرفين على حسم المعركة لمصلحته. وعلى الرغم من وجود حالات سابقة تمكنت فيها المنظمات الإنسانية والمبادرات الأهليّة من إيجاد صيغٍ توافقيّة بين الأطراف المُتحاربة (تتعلّق بالجانب الخدمي في بعض الأحيان، وبتبادل جثث أو أسرى في حالات أخرى)، غير أن تلك الحالات حصلت في مناطق بات من المسلّم به أنّها خارجة عن سيطرة الدولة السورية مرحليّاً، الأمر الذي لا ينطبق على منطقة «البحوث» التي هي منطقة اشتباكات في المرحلة الرّاهنة. المفارقة أنّ وزارة الكهرباء كانت حتى وقت قريب (قبل المعارك الأخيرة) تقوم بتغذية محطة الزربة بكمية 130 ميغا من التيار، ويجري تقسيمها وفقاً لاتفاق بين الأطراف على الارض على النحو الآتي: 90 ميغا لتغذية أرياف حلب الجنوبية والشمالية والغربية وأحياء حلب الشرقية (وكلها خاضعة لسيطرة المسلحين) وتجري عبرها تغذية محطة ضخ المياه في سليمان الحلبي. فيما تُغذي كمية الـ 40 ميغا الباقية أحياء حلب الغربية (سيطرة الدولة السورية). وتجدر الإشارة إلى أن إصرار الوزارة على رفض الاتفاق المذكور والانتظار بدلاً من ذلك حتى تسمح الظروف بدخول فرق الصيانة لحصر أضرار «المحطة واو» وتقويمها، ثم القيام بعمليات الإصلاح (التي يُرجح أن تستغرق فترة طويلة تبعاً للضرر الكبير الذي ألحقته صواريخ الزنكيين بها)، سيعني أنّ مدينة حلب لن تشهد عودة ضخ مياه الشرب في المدى المنظور، مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات كارثيّة على السكان.