عمان | لا يظهر أن الحكومات الأردنية المتعاقبة معنية كثيراً بالبحث عن بدائل مجدية لبثّ الروح في اقتصادها المتهالك، ومن ذلك إحياء السياحة الدينية، وخاصة في قرية المزار الجنوبي في الكرك، المتوقع إن أُخذ قرار بالتشجيع على زيارتها، أن يفِدَ إلى المملكة مئات آلاف الزوار من الطوائف الإسلامية المختلفة. لكن الدعاة السلفيين لا يتوقفون عن تحذيرهم المسؤولين القائمين على السياحة من الإقدام على هذا البديل، فيما يدعوهم آخرون إلى تفهّم معنى السياحة الدينية على أنها ليست ترويجاً لفكر السائح، وإنما «مكسب أردني وطني».
وتحتوي المملكة على عدد من المزارات الإسلامية والمسيحية، منها قرية المزار التي تحوي مقامات الصحابة الثلاثة: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة. وإلى الجنوب من الكرك، يوجد مقام الصحابي الحارث بن عمير الأزدي المدفون منذ زمن المعارك بين المسلمين الأوائل والروم، الواقع في مدينة الطفيلة (بناء حديث مع مسجد). أما إلى الشمال، فيوجد في مدينة مأدبا مقام أبو ذر الغفاري (شخصية مقدسة لدى المسلمين كافة، بمن فيهم الموحدون الدروز الذين يمثلون الطائفة الثالثة في المملكة)، وفي عمان، ثمة كهف أهل الكهف (ذو قيمة دينية لدى المسلمين والمسيحيين)، الذي أقيم عليه مسجد ومركز علمي تابع لوزارة الأوقاف، فضلاً عن مقامات لأنبياء (موسى وهارون ونوح وشعيب ويوشع وبعض إخوة يوسف) في مناطق أخرى من المملكة.

عند كل حديث
عن انفتاح على إيران
تُثار قضية التخوف من التشيع


ولم يعد مقام جعفر بن أبي طالب في قرية المزار كما كان قبل أكثر من أحد عشر عاماً، عندما كانت ساحاته تمتلئ بالعراقيين، فضيوفه هذه الأيام قلّة، يأتون، ويصلّون، ويسلّمون، ثم يغادرون، وذلك من دون عائد مادّي على المكان أو الأسواق المحاذية. السبب في ذلك أن المكان بات مثار جدل وقلق لكونه يهمّ الشيعة على وجه الخصوص، لكن بعض الأهالي قالوا لـ«الأخبار»، إن القرية حتى بداية التسعينيات، وقبل تغلغل الأفكار السلفية التي أخذت على عاتقها محو الآثار التاريخية بحجة أن تقديسها نوع من الشرك، كان الأردنيون، وزوار كثر من العالم الإسلامي يهتمون بهذا المقام.
الداعية مصطفى أبو رمان (صوفي أشعري) رأى أن ضعف الإقبال الداخلي على السياحة الدينية سببه الأول «هيمنة الفكر الوهابي المدعوم من السعودية على المنابر، فقد حرموا الزيارة بحجة أنها بدعة وشرك بالله كما في أدبياتهم». و«ضريح الطيار»، وفق أبو رمان، من أكثر المقامات استقطاباً للزوار من أنحاء العالم بسبب صلة القربى بين صاحب المقام، جعفر، وبين الرسول محمد، كما أنه مرتبط تاريخياً بموقع معركة مؤتة في الكرك التي تشهد حركة بعثية صدّامية وحركة سلفية وهابية «لهما دور في الماضي والحاضر ضد الزيارات عموماً، وخاصة ضد أتباع المذهب الجعفري، ويُشِيعون في المجتمع ثقافة الخوف من التشيع».
ويضيف الداعية: «إذا كانت الزيارات منظمة بمجموعات ذهاباً وإياباً، ومقتصرة على المقامات، فلا مجال للزائرين لنشر أي شيء»، مستذكراً أنه قبل أربعة أعوام أحرق مجهولون سكناً للزوار من طائفة البهرة. وبذلك، يرى أبو رمان أن الدعاية السلفية أدت إلى «تخوف رسمي وشعبي من هذه السياحة... مع أن هذا التخوف يتلاشى عندما يكون الزوار من الإسرائيليين!».
أيضاً، يرى شيخ الطائفة الإسلامية الأحمدية في الأردن، تميم أبو دقة، أن فتح باب السياحة الدينية «على نحو مهني» سيفيد المملكة، وذلك لتوقعه أن يأتي الآلاف من أبناء طائفته لزيارة أضرحة الصحابة والأنبياء. ويدعو أبو دقة الحكومة إلى تسهيل السياحة الدينية والترويج لها، لكن ذلك «يحتاج إلى قرار سياسي أولاً، ثم إلى وضع خطة أمنية متكاملة لتسيير هذه السياحة والحفاظ على أمن الزائرين».

«بُعبع» إيران

رغم التهويل المتعمّد بين فينة وأخرى من وسائل إعلام أردنية تستبق أي انفتاح لجهة السياحة الدينية، بالقول إن الإيرانيين يلحّون على فتح الأبواب أمام الملايين من الإيرانيين الزائرين كشرط لأي تعاون اقتصادي بين البلدين، فإن مصدراً دبلوماسياً إيرانياً قال إن «هذه الادعاءات ليست صحيحة... الزوار الإيرانيون يذهبون إلى الجهات الأربع في العالم، بما في ذلك السعودية وتركيا، باستثناء فلسطين المحتلة، وهم يصلون ويغادرون دون مشكلات».
المصدر، الذي يعمل في الخارجية الإيرانية، أوضح في حديث إلى «الأخبار»، أن طهران رغبت على الدوام في تحسين علاقتها مع دول الجوار، وأنه في الإطار الأردني ــ الإيراني تحديداً، كانت هناك تصريحات إيجابية لوزير السياحة الأردني (السابق) نايف الفايز، قال فيها إن بإمكان الإيرانيين زيارة الأردن، لكن لا تزال الجمهورية الإسلامية من الدول ذات الجنسية المقيدة وتحتاج إلى تأشيرة لدخول المملكة. وأضاف المصدر نفسه: «لا يمكن غضّ النظر عن الأوضاع الاقتصادية العامة في الأردن وعجز الموازنة السنوية (في كل سنة تقريباً)، ورغبة المملكة في فتح الملفات الاقتصادية الإيجابية التي تساعدها على الخروج من الأوضاع الحالية... لكن لا يغيب عنّا حضورها في التحالفات العربية، وبخاصة مع السعودية المعروف نظرتها تجاه العلاقات العربية مع إيران».
ويشرح المصدر أن بلاده لا تريد فرض شروطها على الأردن، لكنها أيضاً تبحث عن صفقة «بصيغة فائز ــ فائز». أما عمّا ينشر في بعض الصحف الأردنية من ادعاءات حول اشتراط التعاون الاقتصادي بفتح السياحة الدينية، فأكد أنه «لا أساس لها من الصحة... إيران لها علاقات جيدة مع التجار والمستثمرين الأردنيين، كما أنها أبدت رغبتها في إعادة تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة (المجمّدة حالياً) مع الأردن».

تعترف الحكومة بأن السياح الإسرائيليين هم الأكثر
إثارة للمشكلات

وقبل سنوات، دار حديث عن اقتراح إيراني لمدّ خط سكة حديد بين الجمهورية الإسلامية، والعراق (النجف وكربلاء)، والأردن (العقبة). وتوقع مهتمّون بهذا الاقتراح أن يصل مئات الحجاج الإيرانيين يومياً إلى الأردن عبر القطار، وخاصة خلال مواسم العمرة والحج إلى السعودية، في ظل وجود منفذ حدودي من العقبة إلى السعودية، كما أن ذلك يعزز السياحة داخل المملكة. لكن النائب في مجلس النواب الأردني، نبيل غيشان، الذي يشغل عضوية «لجنة السياحة والآثار» في البرلمان، قال إن «هناك هواجس أمنية وسياسية، لذا رفضت الحكومة منذ سنوات فتح المقامات أمام السياحة الإيرانية». ويرى غيشان أن هذه الهواجس قائمة، «لذلك لن تقدم حكومة هاني الملقي على أي خطوة شبيهة»، مع أنه يرى أن ثمة سبلاً لاحتواء هذه المخاوف، مثل أن تفتح المقامات لمجموعات سياحية تخضع لشروط محددة في مرحلة أولى.
والملقي هو صاحب المقولة الشهيرة المتعلقة بالتحذير من «الهلال الشيعي»، فقد ابتكر هذا المفهوم لفظياً عندما كان وزيراً للخارجية في بداية الاحتقان الذي سبق «الربيع العربي». وبما أنه كان وزير الخارجية العربي الوحيد الذي تحدث عن «خطورة تشكيل هلال شيعي»، فقد جعله ذلك في دائرة المسؤولين الأقرب إلى السياسة السعودية ومحاذيرها. مع ذلك، يقول غيشان إن الأردن لم يستفد كما يجب حتّى من موقع المغطس على نهر الأردن، وهو من أهم المناطق في الحج المسيحي باعتراف الفاتيكان، ما يعني أن للمشكلة أبعاداً أخرى. وأضاف: «الأمر بحاجة إلى عمل شاق (أمنياً ولوجستياً) من أجل ترتيب وفود الحجاج المسيحيين، والاستفادة من زيارة البابوات الثلاثة إلى الأردن».

السياحة مفتوحة للإسرائيليين!

على المقلب الآخر، لم تتوقف زيارات الجماعات اليهودية من فلسطين المحتلة، أو بلاد أخرى، للمملكة، وذلك منذ توقيع «وادي عربة». ويرى هؤلاء أن لهم «ملكیة دينية لمناطق تاريخیة وأثرية أردنیة»، تبعتها حالات تخريب وسرقة في عدد من الأماكن التي يزورونها، ومنها: وادي بن حماد في الكرك، وادي الحسا، منطقة الهیشة في الشوبك، مقام النبي هارون في البتراء والطفیلة ووادي رم. وقد وثّق الباحث سفيان التل في كتاب حديث (الهيمنة الصهيونية على الأردن) عدداً من تلك الحالات التي شهدت أيضاً تعديلاً في طبيعة الآثار نفسها خلال الزيارات.
من جانب آخر، تُحاط أنشطة الوفود السیاحیة الیهودية بطوق من السرية والكتمان، كما أن الصحافة المحلیة رصدت خلال السنوات الماضية عدداً من «حالات السیاحة السرية في مناطق بعیدة ووعرة خارج المجموعات الرسمية من دون علم الأجهزة المختصة»، إذ تعمّد عدد من الإسرائيليين الإيهام بإضاعة أنفسهم، ثم توجهوا إلى أماكن الآثار التاريخیة لإتلاف مواقع أثرية بالمحو والتحريف أو إضافة كتابات جديدة، ودفن قطع أثرية مزيفة وسرقة الموجود منها. وكان لا يُكتشف أمرهم إلا عند طلب النجدة إذا ألمّ بهم طارئ، مع أنه كانت بعض مجموعاتهم ترفض دخول المستشفیات أو المراكز الأمنیة.
إضافة إلى ذلك، كان سیّاح يهود يخوضون رحلات سیراً على الأقدام ضمن ما يرون أنه في معتقداتهم «حجّ ديني»، وعادة ما تعثر السلطات الأردنیة علیهم بعد أن يضلّوا طريقهم ثم ينقلون جواً خوفاً على سلامتهم. وقبل عامين تقريباً، سُجل وجود وفد في وادي الحسا كان يؤدي صلاة عند جبل النبي هارون، وأفراده يرتدون أزياء ورموزاً يهودية، كما سُجّلت حالة سرقة قطع أثرية شمال المملكة على يد تاجر آثار إسرائیلي، فيما لا يزال مصیر القضیة مجهولاً. كذلك، رصد ناشطون مجموعة طلابیة من الدارسین في أقسام كلیات الآثار والتاريخ الإسرائیلیة تأتي لإتمام مساق دراسي تحت إشراف أساتذة مختصین في مواقع أثرية.
حتى وزارة السیاحة كرّرت في أكثر من مناسبة تصريحات مفادها أن السیاح الإسرائیلیین، الذين يدخلون المملكة بمعدل 95 ألف سائح سنوياً تقريباً، هم الأكثر إثارة للمشكلات، ويشكلون عبئاً على السیاحة، فهم يتهربون من دفع رسوم دخول الأماكن السیاحیة، وتحديداً في البتراء، كما يخالفون القوانین برفضهم اصطحاب مرافقین أردنیین خلال زيارتهم المناطق السیاحیة.

ورقة رابحة في وجه الخليج

الخبير الاقتصادي مازن مرجي (مدير الترويج والبرامج في «مؤسسة تشجيع الاستثمار» الأردنية سابقاً) يرى أن السياحة الدينية تساهم بما لا يقل عن 13 ــ 14% من الناتج المحلي الإجمالي لو أديرت باحتراف، كما أنها ستوفر المليارات من العملة الصعبة التي يحتاج إليها الاقتصاد الوطني، وخاصة مع المصاعب المختلفة وعلى رأسها المديونية العالية والعجز الكبير في الميزان التجاري. يقول مرجي: «على الدولة الأردنية أن تعلم أن قطاع السياحة بأنواعها يساهم في الناتج المحلي الإجمالي، ورفع مستوى معيشة المواطن بإيجاد فرص العمل، وكذلك زيادة مستويات الدخول وأيضاً توسيع القاعدة التنموية للمحافظات كلها، في ظل انتشار المواقع والكنائس والمزارات بكثافة في المملكة».
وهذه الأيام، يسيطر الحديث عن ارتفاعات في أسعار السلع والخدمات في العام المقبل على الرأي العام، وذلك لتغطية عجز الميزانية. وعند كل زيادة شبيهة، تكثر صرخات الاستغاثة من وجوه أردنية بدول الخليج، لكن واقع الحال يفيد بأن الدفع لعمّان بات لا يحتل أي مكانة على أولويات العواصم الخليجية، وكل ما يقال عن مساعدات سعودية أو إماراتية أو كويتية لم يثبت طوال السنوات الأخيرة الماضية أنها حلت أي مشكلة اقتصادية. وفي مجتمع محافظ لا يقبل فتح السياحة بإقامة ملاهٍ ليلية كبيرة، وخاصة مع تعرقل مشروع كازينو البحر الميت، فإن الرفض الرسمي والشعبي أيضاً للسياحة الدينية يضع مصير قطاع السياحة في المجهول، وخاصة أن التقديرات تشير إلى أنه إذا فُعّلت السياحة الدينية، يمكنها أن تجلب سنوياً من السياح أكثر من عدد الأردنيين المقيمين في المملكة.




ملف أمني لا حكومي

من المفارقات أن عاملِين في القطاع السياحي الأردني، فضّلوا إخفاء أسمائهم، أفادوا بأن تفعيل السياحة الدينية ليس ضمن صلاحيات وزارة السياحة أو الحكومة، بل من اختصاصات دوائر الأمن. وبما أن الشحن الإعلامي المذهبي ضد إيران خاصة، والشيعة بوجه عام مستمر، فإن ذلك في تقديرهم أدى إلى «نكوص الجهات الأمنية في الوقت الراهن عن فتح هذا الملف، برغم مزاياه وعوائده المالية المغرية». كما أن ذلك يرتبط بالقلق لدى الأجهزة الأمنية لجهة التخوف من أن تمثل هذه السياحة بوابة لعمل أمني ضد إسرائيل، كما تحذر الأخيرة دوماً المسؤولين الأردنيين.
مع هذا، ثمة تساؤلات عن أخطار السياحة المفتوحة للإسرائيليين، واستفادتهم منها لأغراض التجسس وجمع المعلومات، فضلاً عن المشكلات وحالات القتل التي يتسببون فيها، وخاصة أن الأطماع الإسرائيلية لن تنتهي عند حدود الضفة الغربية المحتلة.