بقدر اختراق القواعد والأصول، تتبدى النذر والمنزلقات عند منعطفات الطرق الحادة. لكل اختراق واسع كلفته السياسية في إرباك المشهد العام سحباً من رصيد الاستقرار والثقة في المستقبل وانتقاصاً من فرص التعافي الاقتصادي والقدرة على مواجهة التحديات المستعصية وتقويضاً لأي أمل في التحول إلى دولة دستورية حديثة.
ما يحدث الآن من دعوات متواترة لإدخال تعديلات جوهرية على الدستور تنزع عنه روحه وفلسفته في التوازن بين السلطات وضمان أوسع حقوق وحريات عامة، يشير إلى أزمة دستورية تضرب في جذر الشرعية وتؤذن بكلفة باهظة يسددها المجتمع كله.
إن ارتفاع أصوات برلمانية في عام الانتخابات تطلب تعديل الدستور لتمديد الفترة الرئاسية من أربع سنوات إلى ست سنوات، يطرح احتمال تأجيلها لعامين. أقل ما يوصف به هذا الاحتمال، أنه خرق لأي شرعية، يستحيل بعده أن تمضي الأمور علي نحو شبه طبيعي، وكل بوابات الجحيم سوف تفتح على مصراعيها. بلا احترام للدستور فلا شرعية.
الدساتير ليست أوراقاً تطوى بالهوى، ونصوصاً تعدل باستخفاف ــ وخاصة إذا ما صيغت أعقاب ثورات ووفق أهدافها. إذا ما تحولت إلى مادة جرى التلاعب في نصوصها كل عامين أو ثلاثة، فإنها تفقد جدارتها وشرعيتها. وإذا ما انطوت التعديلات على قصد تفصيل النصوص على الأشخاص، فإن الكلام كله يفقد حرمته واحترامه.
هكذا باسم «تثبيت الدولة» يضرب أي تطلع للتحول إلى دولة حديثة ــ دولة دستور وقانون ومؤسسات تعلو الأفراد. وهذه ردة كاملة إلى ما قبل الثورة ــ كأنها حقيبة متفجرات عندما تنفجر لا يعود شيء إلى ما كان عليه.
القضية ليست استبدال نص بآخر بقدر ما هي ضرب «الشرعية الدستورية» في مقتل.
لقد تضمن دستور ٢٠١٤ التوجهات والمطالب الرئيسية للثورة المصرية ــ وهذه قيمته التاريخية. وإذا ما كانت هناك ضرورة لتعديل بعض نصوصه، فإن ذلك موضوع توافق لا فرض، ومسألة مصلحة عامة لا تفصيل دساتير.
الدساتير المعلقة في الهواء بلا تطبيق على الأرض تفقد نصف قوتها، غير أن النصف الباقي يظل ملهماً لفكرة التصويب والتصحيح والحساب وفق قواعد والتزامات.
إذا ما ضربت قوة الدستور كلياً، يستحيل تأسيس أي أوضاع طبيعية على أسس مقبولة لا تستنسخ الماضي وتوجهاته وسياساته ووسائله في الحكم.
وإذا ما تأجلت الانتخابات الرئاسية تنتهي في اللحظة ذاتها أي شرعية دستورية ولا تصبح هناك سوى شرعية الأمر الواقع وقبضات السلطة ولا شيء غيرها. ذلك وضع غير محتمل لا في الداخل ولا أمام العالم. بتوقيت مثير في رسائله لما قد يحدث لو مررت التعديلات الدستورية على هذ النحو العشوائي، جرى حجب 290.7 مليون دولار من المعونة الأميركية لمصر على خلفية أزمة قانون «الجمعيات الأهلية».
كان مسؤولون مصريون كبار قد تعهدوا للاتحاد الأوروبي بعدم التصديق على ذلك القانون والتقدم بمشروع جديد إلى البرلمان يلبي الحدود الضرورية لنشاط المجتمع المدني بما يضمن حريته في الحركة وسلامة الرقابة على التمويلات الأجنبية بالوقت نفسه، غير أن ذلك لم يحدث. حيثيات الحجب عزته إلى الفشل في إحراز أي تقدم بملفَي الديموقراطية وحقوق الإنسان. القضية ليست المعونة، فقد كانت عبئاً على استقلال القرار المصري بقدر ما تنذر بضغوط أوروبية في الملف نفسه.
إذا كانت إدارة دونالد ترامب تتجه لحجب جانب كبير من المعونة الأميركية باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان، رغم كل سجلها السلبي وآخره التورط في تصريحات عنصرية عن تفوّق الرجل الأبيض، فعلى أي نحو سوف تتصرف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبقية قيادات الاتحاد الأوروبي؟
كان لافتاً سؤالها لمصريين التقتهم في القاهرة أثناء زيارتها الأخيرة دون أن تنتظر إجابة، كأنها تسأل نفسها: «أي الوضعين أفضل، الآن أم أثناء حكم محمد مرسي؟». لم تبدِ تعاطفاً مع الرئيس السابق الذي جرى عزله، وقالت إنها صدمت فيه ولم تخف شيئاً من الإعجاب بالرئيس الأسبق حسني مبارك، وصمتت تماماً عن إبداء أي رأى في الحاضر.
سؤال ميركل في ترجمته السياسية كاشف لمدى الفجوات رغم لغة المصالح. الفجوات مرشحة للاتساع إلى حدود يصعب تجاوز مخاطرها، ولا هو ممكن الاعتراف دولياً بأي شرعية في مصر إذا ما جرى تأجيل الانتخابات الرئاسية.
التأجيل نفسه يسحب مما تبقى من شرعية «٣٠ يونيو» ويؤكد صوراً سلبية شاعت في الميديا الغربية عن طبيعة ما جرى، ولذلك تبعاته الخطيرة على فرص جذب الاستثمارات الأجنبية. لا أحد مستعد في العالم لأن يغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان، ورغم المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية، فإنها ليست مطلقة ولا بوليصة تأمين مضمونة. الأخطر أن الأجواء المسمومة تقلص أي أمل في المستقبل، وتوفر بيئات حاضنة لتنظيمات العنف والإرهاب ترفع من كلفة الحرب معها، كما توفر بيئات حاضنة أخرى لمنظومة الفساد، ومراكز القوى الجديدة تلغي أي فرصة للتحول إلى دولة مؤسسات ودولة القانون. طالما الدستور يداس ويستهتر به، فلا شرعية لأي سياسة ولا هيبة لأي مؤسسة. تلك المحاذير الماثلة في المشهد المرتبك استدعت سيناريو آخر للتداول بالغرف المغلقة يدعو إلى استفتاء عام على تعديلات دستورية تقرّ مدّ الفترة الرئاسية لست سنوات دون أن يسري ذلك على الدورة الحالية.
هناك استنتاجان رئيسيان في استدعاء ذلك السيناريو.
الأول، أن فكرة التعديلات الدستورية شبه نهائية، القرار اتخذ والأوركسترا بدأت العزف لكن دون نوتة موسيقية حتى بدا المشهد كله نشازاً. الذين يتحدثون باسم التعديلات ليسوا هم صناع القرار ولا من اللاعبين الرئيسيين، لكن أدوار الهامش تمهد لمتن ما سوف يأتي تالياً. لا أحد يعرف على وجه القطع أي نصوص بالضبط سوف تعدل، باستثناء توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية ومدّ فترة رئاسته لست سنوات. عدم القطع من علامات خشية العواقب. من هذه الزاوية، قد يجري تأجيل مشروع التعديلات الدستورية لوقت آخر، فالكلفة باهظة بأي حساب واقعي.
والثاني، أن الانتخابات الرئاسية سوف تجرى في مواقيتها المنصوص عليها بالدستور والقانون بلا زيادة ليوم واحد تجنباً لشبهة عدم دستورية المقعد الرئاسي. المعنى أن الذي سوف يستفيد من أي تعديلات في مدة الفترة الرئاسية هو من يخلف الرئيس الحالي. فهل يستحق عامان إضافيان في الحكم، المقامرة بالشرعية والانقلاب علي الدستور؟
لا توضع الدساتير على مقاس الرجال وإلا فإنها تفقد شرعيتها. إذا ما بدأت اللعبة، فلن تتوقف تداعياتها الخطيرة، وما تستدعيه من انقسامات حادة وصدامات لا يمكن استبعادها. تلك أوضاع منذرة بكلفة سياسية باهظة في بلد منهك حلم ذات ثورة بدولة دستورية حديثة.
*كاتب وصحافي مصري