قبل أيّام ضجّت مدينة حلب بقرار صدر عن اللجنة الاقتصاديّة في وزارة الإدارة المحليّة، مفادُه «رفع الدعم عن المازوت المخصّص لمولّدات الأمبير (الاشتراك)». كانت الترجمة السّعرية للقرار المذكور تعني رفع سعر ليتر المازوت الواحد من 185 إلى 295 ليرة سوريّة، ما يعني بالتالي زيادة سعر الأمبير الواحد بنسبة 60 في المئة على الأقل، ما يعني وصول تكلفة الأمبير الواحد إلى 1700 ليرة (سعر الأمبير وفق التسعير الرسمي 750 ليرة، ولا يلتزمه أصحاب المولدات، بل يتقاضون مقابل الأمبير الواحد 1000 ليرة على الأقل).
ساعات قليلة بعد شيوع لنبأ كانت كافية ليتنفّس الحلبيّون الصعداء مع صدور قرار معاكس ألغى القرار الأوّل، وقيل إنّ الإلغاء جاء بإيعاز من القيادة القطريّة لحزب البعث (رغم أن الدستور الجديد يقول إن البعث لم يعد يمتلك سلطة على مؤسسات الدولة في ظل إلغاء المادة الثامنة الشهيرة). لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتحسّس فيها الحلبيون جيوبهم (وقلوبهم) بسبب «رفع الدعم»، إذ سبق أن صدر قرار مشابه في حزيران الماضي، لكنّه عُلّق أيضاً ولم يُعمَل به. وسعت «الأخبار» في خلال اليومين الماضيين للبحث في الكواليس الحكوميّة في محاولة لفهم سبب صدور قرار «رفع الدعم» في الأساس، رغم معرفة الجهات الحكوميّة بأنّ حلب محرومةٌ التيارَ الكهربائي حرماناً شبه تام منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وأنّ المدينة بأكملها تعتمد على «اشتراك الأمبير» في ظل وضع اقتصادي مزرٍ وانخفاض للقوّة الشرائيّة غير مسبوق في تاريخ المدينة منذ عشرات السنوات.

فتّش عن «الكهرباء»

«وراء كل مصيبة وزارة الكهرباء»، يكاد هذا يكون لسان حال الحلبيين منذ سنوات. وينطبق الأمر على قصّة «رفع الدعم» الأخيرة. مصادر حكوميّة أكّدت لـ«الأخبار» أنّ السرّ وراء صدور القرار يكمن في «تأكيد وزارة الكهرباء أنّ التيار الكهربائي على وشك العودة إلى حلب، لتعيش نظام تقنين شبيهاً بمعظم المحافظات». وانطلاقاً من ذلك، «كان منطقيّاً صدور قرار من هذا النوع، لأنّ اشتراك الأمبير حينها سيغدو أمراً غير اضطراري». وبمعنى أوضح، رأت اللجنة الاقتصاديّة أن عودة التيار الكهربائي الحكومي إلى حلب تلغي سبب دعم «مازوت الأمبير»، حيث يتحول الاشتراك إلى «حالة كمالية» يلجأ إليها القادر على تحمّل أعبائها، أما غير القادر فيكتفي بالكهرباء الحكومية. إلى هنا والكلام واقعي إلى حدّ كبير، لكن الأمر يقتضي التأكّد من حالة التيار الكهربائي، وموعد عودته إلى حلب.

حل بالمليارات

كانت وزارة الكهرباء قد بشّرت قبل شهور بأنّ مشكلة الكهرباء في المدينة ستشهد انفراجاً بفضل حل جذري. والحل المذكور هو مدّ خطّ كهربائي جديد باستطاعة 230 ك.ف، وطول يقارب 170 كم ينطلق من حماه إلى حلب عبر مناطق سيطرة الدولة السورية (سلمية، أثريا، خناصر، السفيرة). وطوال الشهور الماضية لم تتوقف المصادر «الكهربائيّة» الحكوميّة عن إطلاق التصريحات المطمئنة حول الخط الجديد، وقرب انتهاء الأعمال فيه ووضعه في الخدمة. واتفقت معظم التصريحات على أنّ الخط سيبدأ بتغذية حلب مع نهاية الشهر الجاري على الأكثر، وسيكون قادراً على تزويدها بنحو 200 ميغاواط «بحسب توافر الطاقة من محطات التوليد من المصدر». الشيء الوحيد الذي تضاربت حوله التصريحات هو التكلفة الإجمالية للمشروع «الإنقاذي»، ففيما قالت بعض المصادر إنّها 4 مليارات ليرة سوريّة (نحو 8 ملايين دولار)، رفعته مصادر أخرى إلى 7 مليارات (حوالى 14 مليون دولار).

تحت «رحمة» المسلّحين!

أما الحقيقة الوحيدة التي أخفتها كل المصادر الكهربائيّة، فمفادُها ببساطة أن الخط الملياري غير آمن! ولم يتوقف الأمر عند إخفاء تلك الحقيقة، بل راحت المصادر تتغنّى بأن من أبرز مزايا الخط الجديد «موقعه وامتداده الآمن عبر مناطق آمنة واقعة تحت سيطرة الجيش العربي السوري» (أحدث التصريحات في هذا الشأن أدلى بها مدير فرع المنطقة الشمالية لنقل الكهرباء حسام حاج إسماعيل لتلفزيون الخبر). لكن، وعلى أرض الواقع تقبع الحقيقة في وادٍ آخر: الخط «الملياري» ليس آمناً، فقد «تبيّن وجود مسافة تقارب 30 كيلومتراً من الخط تحت رحمة المسلّحين» كما يؤكد مصدر وزاري رفض الكشف عن اسمه. والكيلومترات المذكورة تتوزع بين ريفي حماه وحلب، بعضها في مناطق تسيطر عليها مجموعات مسلّحة مباشرةً، وبعضها الآخر في مرمى نيران مجموعات قادرة على استهداف الأبراج من دون عناء يذكر. وليس معلوماً بعد كيف ستتعامل وزارة الكهرباء مع هذه «المفاجأة»، مع الأخذ بالاعتبار وجود تجربة مماثلة في سجل الوزارة، إذ سبق لها أن صرفت أكثر من مليون دولار على خط سمّته حينها «الخط الذهبي»، ووعدت بأنه سيحلّ مشكلة الكهرباء في حلب، قبل أن يتضح مروره في منطقة سروج الخاضعة لسيطرة المسلّحين («الأخبار»، العدد 2917).

الأحياء الشرقيّة «خارج التغطية»

ثمة تفصيل جوهري في ما يخص الواقع الكهربائي في الأحياء الشرقية لمدينة حلب. معظم تلك الأحياء شهدت على امتداد السنوات المنصرمة تخريباً كاملاً للبنى التحتيّة، بما فيها خطوط الشبكة الكهربائية التي نُهبَت منذ خروج الأحياء عن سيطرة الدولة السورية، ما يعني أن تلك الأحياء لن تستفيد من أي عودة للتيار الكهربائي إلى حلب (في حال حدوثها) ما لم تُمَدّ شبكة جديدة (وهو أمر يحتاج وقتاً وتكلفة كبيرين). ولن يكون أمام سكان تلك الأحياء للتزود بالتيار سوى الاستمرار في الاعتماد على «الأمبير». في الوقت الحالي، يتقاضى أصحاب المولدات في تلك الأحياء مبالغ أكبر من مولدات الأحياء الغربية (وكلاهما أكبر من السعر النظامي). المفارقة أن عودة الكهرباء الحكومية إلى حلب ستكون أشبه بنكبة جديدة تطاول سكان الأحياء الشرقية، إذ يبدو مسلّماً به أن قرار «رفع الدعم» سيعاد تجديده، لتتضاعف أكلاف نكبتهم أكثر فأكثر.