في أي أزمة أطرافها دول عربية، بات من المعتاد الخروج عن قواعد «اللعب النظيف» وغلبة لغة الكراهية والتحريض والتنابذ بالأوطان حيث يعتقد كل طرف أنه يوجع ويؤذي المشاعر العامة للطرف الآخر. لكل أزمة أياً كانت طبيعتها، سياق وحدود ــ وهذه تستدعي ضوابط وأصولاً في الرياضة، كما السياسة. عندما تغيب الضوابط فإن فوضى العبارات والتصرفات بالإمعان في التجريح تأخذ في طريقها كل قيمة إنسانية وكل مشترك قومي.
مع بدء ثورة الاتصالات ساد تصور أن الوسائل الجديدة سوف تساعد العالم العربي على اكتشاف ما يجمعه من روابط وصلات ووحدة مصائر، غير أن ما جرى جاء على العكس تماماً.
بأي مراجعة لسجل الأزمات العربية في السنوات الأخيرة، يتبدى أنّ التفلت في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الصحف والشاشات ببعض الأحيان، سمة رئيسية متكررة.
وقد كانت تداعيات المباراة النهائية في البطولة العربية للأندية (في نهاية الأسبوع الماضي) بين «الترجي» التونسي و«الفيصلي» الأردني واحدة من تجليات ذلك التفلت، لكنها لم تكن الأسوأ ولا الأخطر بالقياس إلى أزمات أخرى سياسية ورياضية.
بإجماع النقاد الرياضيين المصريين أخطأ الحكم في احتساب هدف من تسلل واضح للأول على حساب الثاني حسم نتيجة البطولة. في مثل هذه الحالة، التي تعرفها ملاعب كرة القدم، الاحتجاج بالوسائل القانونية المتعارف عليها مشروع تماماً وحق أصيل. غير أن الاعتداء البدني على حكم المباراة قضية أخرى تنال من سمعة الفريق الذي ربما كان يستحق نيل اللقب العربي. ثم كان الأسوأ أن جهازه الفني تورط في الاعتداء نفسه وجمهوره الذي حضر المباراة خرب شيئاً من الاستاد. شغب الملاعب مما هو معتاد في العالم بأسره وما يردعه وضوح القوانين وصرامة تنفيذها من الجهات المختصة. عندما تغيب القواعد تضيع الحقوق. وعندما لا نصارح أنفسنا بالحقائق فإن مثل هذه الحوادث سوف تتكرر بأسماء جديدة وأبطال جدد وربما بصورة أفدح. لقد تصادف أن الحكم المخطئ مصري والمباراة على استاد مصري.
هكذا تناثرت عبارات لا تصح ولا تقبل بحق المصريين كلهم، على شبكة التواصل الاجتماعي وهناك من رد بالمثل، كما هي العادة في أي مشاحنات من مثل هذا النوع. وهكذا خرجت أزمة مباراة كرة قدم عن نطاقها وتفاقمت سلبياتها. بالتوقيت، فإن الشعبين الشقيقين يحتاج كلاهما إلى الآخر في لحظة تقرير مصائر العالم العربي بعد الحرب على «داعش» وعند البدء في أي تقسيمات محتملة. المشرق العربي، بما فيه الأردن ولبنان، تحت التهديد ومصر ليست بعيدة عن سيناريوهات الخطر الداهم إذا ما قسمت سوريا والعراق، والقضية الفلسطينية تكاد أن يقصم ظهرها بصفقات محتملة.التلاسن لا هو صحيح أخلاقياً ولا مفيد سياسياً ولا يؤسّس لأي تضامن حول أي قضية.
في مثل هذا النوع من الملاسنات، تتبدى أسباب سياسية واجتماعية وثقافية عنوانها العام البحث عن متنفس للضيق الفادح بالأحوال الماثلة. تحت وطأة هزائم الروح والسياسات فإنه بحث عن «عدو مفترض» بدلاً من العدو الحاضر، حتى لو كان هذا العدو المفترض أخاً وشقيقاً.
بصياغة أخرى، فإنه هرب من الحاضر وقسوته بأكثر الألفاظ والتصرفات توغلاً في الغلاظة، كأنها حلّ لكلّ المشاكل وعلاج لكلّ الجروح. كما أن الغلاظة المفرطة تعبير عن أزمة عميقة في الثقافة العامة حيث تتعرض الهوية العربية للتآكل والتجريف والتشكيك فيها دون أن يكون هناك إدراك كاف لمغبة الملاسنات المتفلتة من كل قيد.
رغم الأجواء السلبية، التي أعقبت تلك المباراة، إلا أنها تظل محدودة وبعد حين سوف تتراجع ذكراها غير أن عمق الدلالات عما يحدث تحت السطح أهم من ظاهر الحوادث.
وقد كانت تداعيات مباراة أخرى في عام ٢٠٠٩ بين مصر والجزائر بتصفيات كأس العالم لكرة القدم كاشفة لما هو تحت السطح وما قد يحدث تالياً. في أجواء مسمومة جرى التنكر لكل قيمة مشتركة وأهدر التاريخ على نحو فادح فيما يشبه الهيستيريا الجماعية.
بدت المشاهد عاراً تاريخياً لا مثيل له، تعبئة إعلامية وسياسية جرفت في طريقها أي أواصر مشتركة، تظاهرات بالآلاف أمام السفارات والهيئات التابعة للدولة الأخرى واعتداءات على مواطنيها بلا أدنى جريرة كأن كلا البلدين وجد أخيراً عدوه!
في تلك الهيستيريا، التي سادت الشوارع، بدا أن هناك من يغذيها لحرف الانتباه عن الأزمات الحقيقية ومدى الفشل الذي يعانيه نظاما الحكم.
باستثناء أصوات تعد على أصابع اليدين، لم يكن هناك من جرأ على الوقوف أمام نوبات التحريض والكراهية وإهالة التراب على معارك المصير الواحد، التي خاضها الشعبان معاً في أوقات سابقة، حيث دعمت مصر بالمال والسلاح والإعلام الثورة الجزائرية حتى الاستقلال واستعادت وجهها العربي دون أن تمنّ على شعبها بما أعطت وبذلت اقتناعاً بوحدة المصير العربي.
وقد كان مثيراً أن الذين لم يعطوا أو يبذلوا شيئاً أمعنوا في المنّ دون أن يتورعوا عن تعمّد إهانة الثورة الجزائرية ــ ثورة المليون ونصف المليون شهيد ــ بأسوأ العبارات التي لا يصح أن توضع على ورق. في المقابل، فإن الجزائر سارعت في الأيام الأولى بعد الهزيمة العسكرية، التي لحقت بمصر في عام ١٩٦٧، إلى عرض تعويضها عن السلاح الذي فقدته، وذهب رئيسها هواري بومدين إلى موسكو لهذا الغرض دون إخطار مسبق للرئيس جمال عبدالناصر، بما انتواهُ، كما حاربت قوات جزائرية ضمن قوات عربية أخرى في حرب ١٩٧٣.
في تلك الأيام القاسية بوطأتها اقترح مؤسس صوت العرب الأستاذ أحمد سعيد، أن أجري حواراً بالهاتف مع زعيم الثورة الجزائرية الرئيس الأسبق أحمد بن بللا، فقد تساعد تصريحاته على تخفيف غلواء الأزمة المتفاقمة فهو عروبي هواه «مصري» ويصف نفسه بأنه «ناصري»، وجرت اتصالات مع السيدة قرينته زهرة في جنيف لمعرفة أين هو حتى يمكن التواصل معه، غير أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان له رأي آخر خشية أن يفضي الحوار إلى إحراج الرئيس بن بللا.
إلى هذا الحد كانت الأجواء مسمومة وهياج المشاعر بلا سقف.
من بوسعه الآن أن يدافع عن عار ما جرى؟
الحقائق تقول كلمتها في النهاية.
أهم تلك الحقائق أن الأزمات الكبرى لا يمكن إخفاؤها باصطناع أعداء افتراضيين، أو بالبحث عن أمل مراوغ بين أقدام اللاعبين. رغم التوظيف السياسي للفتنة والكراهية فإن ما جرى في شوارع القاهرة أخذ بعد شهور قليلة اتجاهاً آخر ضد نظام حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك في مليونيات ثورة «يناير». نفس الجماهير تحركت لكن بدواعي التغيير هذه المرة.
في تداعيات الأزمة الأخيرة لم يكن هناك مثل هذا التوظيف، لكن لم تكن الإجراءات القانونية والتأديبية مقنعة بأن هناك قواعد تحترم وأهمها تقبّل الهزيمة مثل المكسب، فذلك من طبيعة الرياضة والتنافس، وإذا ما حدث خلل تحكيمي فإنه لا يبرر الاعتداء والتخريب وشطط التنابذ بالأوطان.
إذا لم تكن هناك روادع صارمة لمثل هذا الشطط الشائع عند كل أزمة عربية فإن العواقب سوف تكون وخيمة بقدر ما ينكسر ما يطلق عليه «وحدة المصير العربي».
*كاتب وصحافي مصري