منذ اندلاع العدوان السعودي على اليمن في آذار 2015، دخلت سلطنة عمان حالة ترقّب وتوجّس مكتومَين إزاء خطوات الرياض وأبو ظبي في الجزء الجنوبي من هذا البلد. كانت عيون مسقط السياسية والأمنية تترصّد، بحذر، تمدّد التنظيمات الإرهابية، وتكاثر المجموعات المسلحة، وكذلك، توسّع بقعة النفوذ الإماراتي في معظم المحافظات الجنوبية.
ظلّ الأمر مطوياً إلى أن بدأت الإمارات، حديثاً، طَرق أبواب محافظة المهرة، التي بقيت، إلى وقت قريب، بعيدة من دائرة الصراع.
بالنسبة إلى عمان، يشكّل الاقتراب من المهرة، ثانية أكبر المحافظات مساحة (82405 كلم مربع)، تهديداً مباشراً لمصالحها وأمنها القومي؛ ذلك أن السلطنة ترى في هذه المحافظة التي تجمعها بها حدود شاسعة درعاً واقية لها من ارتدادات التفاعلات اليمنية الضاربة، أغلب الأحيان، في اللااستقرار، كما أنها تعتبرها حاجز صدّ بين نسيجها الاجتماعي المتجانس والوادع، وبين الدعوات السلفية والوهابية الآتية من وسط الجزيرة العربية. من هنا، كان اهتمام العمانيين بتحصين المهرة، واجتذاب أهلها، وتمتين الأواصر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بهم. اهتمام تجلّى في مظاهر متعدّدة، لعلّ أهمها السماح للمهريين بدخول الأراضي العمانية من دون تأشيرات منذ ما بعد حرب 1994، وإفساح المجال أمامهم لافتتاح مصالح اقتصادية ومشاريع داخل السلطنة. ساعدها في ذلك الامتداد الجغرافي المتداخل ما بين مدينة صلالة العمانية ومحمية حوف اليمنية، واشتراك المهريين مع العمانيين في الكثير من العادات والتقاليد وحتى الأزياء، والاختلاط القبلي الكبير ما بين المهرة وعمان (قبائل كثيرة في مقدمها آل عفرار موجودة في المهرة وعمان في الوقت عينه).
هذا التشابك التاريخي المتقادم لا يروق، على ما يبدو، مناوئي السلطنة في مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً منهم الإمارات، التي تريد، اليوم، ضرب النفوذ العماني في المهرة، متسلّحة بتعدّد أذرعها في بقية محافظات الجنوب.
هكذا، تجتهد أبو ظبي في استقطاب الشخصيات الاجتماعية والوجوه القبلية والفاعليات السياسية النافذة في المهرة، أملاً في النفاذ من خلالها إلى الشرائح الشعبية. مساعٍ يرافقها اشتغال ممنهج تحت اللافتة الإنسانية عينها المرفوعة في عدن وحضرموت وغيرهما: الهلال الأحمر الإماراتي. هذا الأخير يتولى مهمة استهداف العامة من خلال «الإعاشات» والمساعدات العينية والمادية، كما يتم استدراج الشبان المهريين إلى معسكر أقامته الإمارات في مدينة الغيضة، حيث يخضع المجنّدون لتدريبات، يُعتقد أن الهدف من ورائها التوطئة لتشكيل ذراع عسكرية مشابهة لـ«الحزام الأمني» في عدن، و«النخبة الحضرمية» في حضرموت، و«النخبة الشبوانية» في شبوة، والتي تدين جميعها بالولاء للإمارات. وتأتي تلك التحركات استكمالاً لمساعي أبو ظبي لتوسيع مساحة سلطانها خارج مضيق هرمز، تحديداً في خليج عدن وبحر العرب، الذي يحدّ محافظة المهرة من الجهة الجنوبية.

تجتهد أبو ظبي في
استقطاب الشخصيات
والفاعليات النافذة في المهرة

هذه المساعي يبدو أن سلطنة عمان شديدة التنبّه إليها، وما تحركاتها الأخيرة على خطّ محافظتي حضرموت والمهرة إلا جزء من رسائلها المبطّنة إلى آل نهيان بأن خططكم بدأت تتجاوز خطوطاً حمراء أرستها عقود مستطيلة من الزمن. ولئن كانت تلك التحركات لا تزال، حتى الآن، في طورها الرمزي، إلا أنها، في السياق المتقدم، تظهر بالغة الدلالة. قبل أيام، أقدمت مسقط على توجيه ضربة «ناعمة» إلى أبو ظبي، من بوابة مطار الريان في مدينة المكلا، الذي يسود اعتقاد بأن الإماراتيين حوّلوه إلى معتقل كبير بإشراف أميركي. فبعدما رفضت الإمارات فتح المطار، استثنائياً، أمام جرحى انفجار مولد كهربائي في المكلا تستدعي حروقهم البالغة نقلهم إلى الخارج، بادرت عمان إلى تخصيص طائرة عسكرية تابعة لسلاحها الجوي لنقلهم إلى أراضيها، حيث يتلقون العلاج، حالياً، في مستشفى السلطان قابوس. ولم يكد يمر يومان على نقل الجرحى، حتى قام وزير الصحة العماني أحمد بن محمد السعيدي، ومعه محافظ ظفار محمد بن سلطان البوسعيدي، بعيادتهم في المستشفى.
التحرك العماني قبالة التقاعس الإماراتي، والذي لاقى ترحيباً في أوساط ناشطين وصحافيين حضرميين اتهموا أبو ظبي بالخذلان وتحويل مطار الريان إلى منطقة عبور آمن للمسؤولين فقط، أعقبه صدور مرسوم سلطاني أثار جدلاً واسعاً في الدوائر السياسية والإعلامية وحتى الشعبية، إذ أصدرت السلطات العمانية، قبل أيام، بحسب ما تم تداوله على نطاق واسع، مرسوماً بمنح الجنسية لـ69 شخصاً من أسرتَي رئيس الوزراء الجنوبي السابق حيدر أبو بكر العطاس، وسلطان المهرة عيسى بن عفرار. وبالنظر إلى أن العطاس ينحدر من محافظة حضرموت التي تعدّها الإمارات جزءاً من مناطق هيمنتها، وإلى المكانة التي يحظى بها بن عفرار في المهرة، تغدو الرسالة العمانية واضحة: المهرة جزء من المجال الحيوي العماني، وحضرموت يمكن الولوج إليها إذا لزم الأمر.
رسالة صاحبها تطور خطير على الحدود بين عمان والمهرة، حيث سيطر مسلحون قبليون على منفذ شحن الحدودي، بعد انسحاب قوات اللواء 137 مشاة الموالية للرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، من المنفذ. جاء ذلك بعدما رفضت قيادة السلطة المحلية في المحافظة (يُشار هنا إلى أن المحافظ محمد عبدالله كدة كان رفض الانضمام إلى «المجلس الانتقالي» المدعوم من الإمارات) حضور تحكيم بين قبيلتين متنازعتين على المنفذ، ما دفع إحداهما إلى السيطرة عليه، طالبة من قوات هادي الانسحاب منه. وفيما لم يتأكد، إلى الآن، ما إذا كان المسلحون لا يزالون مسيطرين على المعبر أو أنهم انسحبوا منه كما ذكرت بعض المصادر، يبقى ثابتاً أن للحادثة دلالات في ما يتصل بالحرص العماني على المهرة، وإفهام من يعنيهم الأمر بأن مفاتيحها بين يدي مسقط.
في خلاصة المعطيات، يبدو أن محافظة المهرة ستكون عنوان الصراع المقبل في اليمن، في ظل استشعار الإماراتيين فائض قوة يظنون، بفعله، أن بإمكانهم تجاوز معاقلهم إلى الحديقة الخلفية لـ«الشقيق» العماني. لكن ما يجدر بأبو ظبي التنبه إليه أن إحساس مسقط بخطر محدق بظهيرها الجيوسياسي، مترافقاً مع تململ من التعامل السعودي الإماراتي في ملف الأزمة الخليجية، قد يدفعها إلى اتخاذ خطوات لم يكن الحديث عنها وارداً قبل اليوم.