أعلنت جامعة الدول العربية تأجيل الاجتماع الوزاري الذي كان مقرراً يوم الخميس (26 تموز) إلى الخميس الذي يليه (3 آب). لم يثر الإعلان أي ردود فعل. حتى أولئك الذين اعتادوا ــ محقّين ــ تقريع الجامعة على تخاذلها وضعفها ولافعاليتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين أو بتهديد جدي للعرب، قابلوا ما يحدث بالصمت. وهم هنا ــ محقّون ــ مرة أخرى، فليس من أثر للتقريع واللوم وحتى الصراخ إزاء هيكل متهالك لم تعد له أي قيمة.
في الإعلان المذكور حديث عن أن التأجيل هو لضمان حضور أوسع للوزراء. ليس معروفاً حجم الأثر الذي سيخلفه الحضور المنشود، غير بيان باهت معتاد يكرر ما دأبت الجامعة على قوله، حتى إن بإمكانها اللجوء إلى أرشيفها «الثري» لإعادة الحياة لبيان من محتوياته عن القدس. والأرجح أن التأجيل هو مراهنة على الوقت، فربما يستجيب بنيامين نتنياهو لتحذيرات أجهزته الأمنية، ويزيل البوابات الإلكترونية، وبذلك يتجنّب الوزراء عناء إصدار البيان... أو استكمال الاتصالات السرية مع حكومة الاحتلال لـ«إيجاد مخرج» عبر الإعداد لبيان يكون مدخلاً للتطبيع العلني من أجل فتح بوابات المسجد الأقصى.
سلوك الجامعة العربية، كما كثير من الأجواء المحيطة بما يحدث في القدس منذ عملية «الجبارين الثلاثة» المجيدة في باحات المسجد الأقصى المبارك، يؤشر على التراجع في الوعي بمعنى القدس ومكانتها، والتركيز على حدث محدد بوصفه التهديد لعروبة المدينة وقدسيتها. قبل عملية «الجبارين» في القدس، ثابر المستوطنون الصهاينة، وبحماية جيشهم وشرطتهم، على اقتحام باحات الأقصى صباحاً وبشكل شبه يومي، والتجوال فيها، في مسعى لوضع «التقسيم الزماني والمكاني للحرم» موضع التطبيق الفعلي. وفرض المحتلون إجراءات متعددة لمنع الفلسطينيين من الوصول إلى الصلاة في المسجد، مثل تحديد أعمار الأشخاص المسموح لهم بالدخول والتضييق على الحواجز، كما أنهم يطبّقون إجراءات مماثلة في أوقات الأعياد المسيحية، أيضاً لمنع الفلسطينيين من دخول المدينة والوصول إلى كنيسة القيامة.
لكن هذا ليس كل ما يحدث في القدس. يُجمع الصهاينة بمختلف اتجاهاتهم على اعتبار «القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل». ويقومون بكل ما من شأنه تحويل هذا الشعار إلى واقع. هذا ما يمكن أن نطلق عليه وصف «التهويد الشامل» لمدينة القدس، الذي يطاول «كل ما هو ليس يهودياً فيها»، في تطبيق حرفي لكلمات ثيودور هرتزل الشهيرة.
وشهدت منطقة «غربي القدس» عمليات تهويد متسارعة بعد احتلالها عام 1948. وانطلق التهويد لـ«شرقي المدينة» بعد احتلاله عام 1967. وشملت نشاطات التهويد إزالة «حارة المغاربة» الملاصقة لحائط البراق، وهدم بيوت وعقارات كثيرة، وإبعاد مقدسيين عن مدينتهم قبل أن ينطلق غول الاستيطان وفق نظامي «الأحزمة والبؤر» حيث جرى تطويق الأحياء المقدسية بالمستوطنات، وإغراقها بالمستوطنين، كي تشكل أحزمة حول أحياء الفلسطينيين وعزلها. ثم بدأ التسلل لإقامة بؤر استيطانية في «البلدة القديمة» والأحياء خارج السور. ولا يزال النشاط الاستيطاني التهويدي محموماً في القدس وحولها. وتصدر على نحو دائم قرارات بإقامة وحدات استيطانية جديدة في القدس وحولها، ذلك أن السلوك الاستيطاني يتعمد تطويق القدس كلها بحزام استيطاني هائل، فضلاً عن جدار الفصل، وتقويض التجمعات الفلسطينية القريبة من المدينة (عرب الجهالين مثلاً).
وبغية إفراغ القدس من سكانها، حوصرت أسواقها، وأقيمت أسواق موازية يعمل فيها المستوطنون الصهاينة. كذلك فرضت ضرائب باهظة على المقدسيين لدفعهم إلى مغادرة المدينة. وأغلقت دكاكين كثيرة، ووقعت أخرى تحت ثقل ديون هائلة بسبب سياسة ضريبية تتقصّد إفقار الفلسطينيين وكسر إرادتهم بالبقاء في مدينتهم.

من المهم القول إن إزالة البوابات لا تعني وقف التهويد المتواصل للمدينة

وتعرّضت الأوقاف الإسلامية (حارة المغاربة هي من أراضي الوقف) والمسيحية لحرب ضارية للسيطرة عليها، عن طريق المصادرة، أو التحايل، فبيعت أملاك كبيرة للكنيسة الأرثوذكسية على أيدي رجال دين غير فلسطينيين (أشهر تلك الوقائع ما يتعلق بدير مار يوحنا، والأراضي التي أقيمت عليها مستوطنة جبل أبو غنيم، والأرض في منطقة باب الخليل)، ولم يستطع رجال الكنيسة العرب الفلسطينيون، رغم احتجاجهم الصاخب وتحركاتهم الكثيرة، وقف التعديات التحايلية على أملاك الكنيسة. وقبل عملية القدس الأخيرة، كانت هناك احتجاجات من المسيحيين الفلسطينيين على عملية بيع جديدة يقوم بها المتحكمون في أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية.
منذ إغلاق الحرم القدسي ووضع البوابات الإلكترونية على بواباته، تعيش القدس أجواء انتفاضة شبيهة بتلك التي سادت عام 1987. سقط شهداء وجرحى في مواجهة قوات الاحتلال الصهيوني. ومعلوم أنه في مرات كثيرة شكلت الاعتداءات الصهيونية على القدس صاعق تفجير لانتفاضات وثورات (هبة 1920 في موسم النبي موسى، هبة البراق 1929، انتفاضة النفق 1996، انتفاضة الأقصى 2000) غالباً ما امتدت لتشمل كل فلسطين.
ما يحدث اليوم يشكل فرصة جديدة للانتفاضة الفلسطينية، التي تمثل إجابة عن مختلف أنواع التحديات التي تواجهها فلسطين وقضيتها. وثمة توجه واضح لحصر الأمر في «البوابات الإلكترونية»، فإذا تم التجاوز عنها (والإشارات كثيرة إلى إمكان إزالتها)، عاد كل شيء إلى ما كان عليه. فماذا عن مخاطر التهويد الأخرى على القدس؟
العدو الصهيوني يصرّ على «قدس موحدة عاصمة لإسرائيل»، والخطاب العربي و(غالبية) الفلسطيني سلك درباً أوصله إلى الحديث عن القدس الشريف (البلدة القديمة وضمنها الحرم). واليوم يبدو الأمر تعاملاً مع موضوع البوابات على الحرم القدسي؛ إزالة البوابات لا تعني وقف التهويد المتواصل للمدينة.
حسناً أن جامعة الدول العربية أجّلت اجتماعها! ربما كان الفلسطينيون بحاجة إلى بعض الوقت حتى لا تضيع من بين أيديهم فرصة أخرى.