تونس | صدّق مجلس نواب الشعب يوم 5 تموز الجاري على قانون «الأحكام المشتركة للهيئات الدستورية»، الذي جاء في صيغة «مسّت باستقلالية الهيئات الدستورية على المستوى المالي والهيكلي»، وفق تصريح رئيس «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» شوقي الطبيب.
وينص الفصل 11 من القانون على أنه في حال حدوث شغور في الهيئة، يُسَدّ بالعودة إلى نفس عملية التعيين منذ البداية، أي عبر انتخاب في البرلمان. وبهذا، إنّ الخضوع التام في التعيين وسدّ الشغور للتجاذب السياسي البرلماني، «سوف يُفقد استقلالية الهيئات من أي معنى له فائدة»، وفق تصريح الطبيب.
وفي نفس القانون، يُعدُّ الفصل الـ18 الذي أثار جدلاً واسعاً في ما يتعلق بالاستقلالية المالية، أحد الفصول التي تُخضع الهيئات الدستورية في تونس للهيمنة الحكومية مباشرةً. إذ ينص الفصل على تعيين مدير جهاز إداري لكل هيئة، يكون المسؤول عن تقديم مشروع موازنة الهيئة التي يشرف عليها، إلى رئاسة الحكومة ثم إلى البرلمان (اللجنة المكلفة بالمالية)، وهذا ما يجعل الرقابة الحكومية سابقة للرقابة البرلمانية، ويجعل بالتالي أي هيئة دستورية وكأنها «ملحق إداري بالحكومة»، وفق ما صرّح به رئيس «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات» شفيق صرصار (استقال من مهماته في 2 أيار الماضي، ويقوم بتصريف الأعمال في انتظار سد الشغور).
أما بشأن الفصل 33 من قانون الأحكام المشتركة للهيئات الدستورية، فيقول رئيس «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري» النور اللجمي، في حديث إذاعي، إنّ «هذا الفصل ينص على أن مجلس نواب الشعب له صلاحية سحب الثقة من مجلس الهيئة بقرار من ثلثي أعضائه، عبر تقديم طلب معلل في ذلك لرئيس مجلس النواب، صادر عن ثلث النواب فقط»، مضيفاً أنّ «هذا في حد ذاته يفتح الباب أمام تداخل التجاذبات السياسية في عمل الهيئة».
ويشير اللجمي إلى أنه «في هذا الفصل بالذات، تظهر نيات الحكومة الرامية إلى تكبيل الهيئات»، إذ يرد في فقرة أسباب حل الهيئة أن تكون «حادت عن مهماتها الدستورية»، دون أي شرح لمعنى حياد هيئة دستورية عن مهماتها. وبالتالي، إنّ الفصل حمّال أوجه، الأمر الذي يسهل على أي رئيس حكومة «حل الهيئة لمجرد الخلاف معها». كذلك لا يمكن التغافل عن إشارة شفيق صرصار في هذا السياق إلى أنّ «استقلالية الهيئات ليست في صالح الجميع»، وهو ما يعكس نزعة النواب وكتلهم السياسية نحو تهيئة تلك الهيئات للخضوع إليها يوماً ما عند الوصول إلى السلطة.

وصف البعض القانون
بأنه يخون روح الدستور
الذي أُقرّ في 2014

رؤساء الهيئات الدستورية الرئيسية يدينون بوضوح تصديق مجلس نواب الشعب على القانون الأساسي الذي ينظم عملهم، وهو مؤشر على أزمة تشريعية عميقة في تونس، ناتجة من عدم تجانس النظام السياسي الذي تُحكم وفقه البلاد منذ صياغة دستور 2014 وتركيز النظام شبه البرلماني. وإنّ التحالف البرلماني، والسياسي، بين القوتين المهيمنتين في البرلمان (النهضة ونداء تونس)، الذي يُعرف إعلامياً باسم «تحالف الشيخين»، أدى إلى اقتراح قوانين، تسعى إلى مزيد من التضييق على الهيئات الدستورية التي تُناط في الأساس بعهدتها مهمة التعديل والحد من سلطة الحكومة على مسائل حساسة مثل الانتخابات ومكافحة الفساد وتعديل الإعلام السمعي البصري، وهي محاور مثلت مرتكزات النظام الديموقراطي المنشود منذ ثورة 2011. وهذا ما دفع شوقي الطبيب إلى تسمية القانون «قانون خيانة روح الدستور».
من ناحية أخرى، يُعدُّ مشروع قانون «زجر الاعتداءات على القوات المسلحة» أحد أهم المؤشرات التي تؤكد عودة منظومة الاستبداد التي عانى منها التونسيون منذ الاستقلال إلى الثورة. فقد ورد مشروع القانون عدد 25 لسنة 2015 والمتعلق بزجر الاعتداء على القوات المسلحة، في 20 فصلاً مقسَّمة إلى خمسة أبواب، احتوت على 13 فصلاً زجرياً للعقوبات التي يمكن أن تلحق بشخص قام باعتداء على القوات الحاملة للسلاح، سواء لمهمته أو لصفته. مشروع القانون هذا والمقترح للنقاش، يجعل عناصر الدولة الحاملين للسلاح فوق المساءلة.
ولا يتوقف الأمر فقط عند إمكانية إفلات العنصر المسلح من العقاب في حال ارتكابه للتجاوز، بل إن مشروع القانون في صيغته الحالية يُضرُّ بحرية الصحافة والتعبير والتظاهر، وفق تصريح نقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري، الذي أكد أن هذا القانون يمثّل «انقلاباً صارخاً على الدستور، ويجب التصدي له».
ويشير الفصل الرابع من مشروع القانون إلى أن كلّ المعلومات المتعلقة بالأمن في تونس تعتبر أسراراً لا يمكن استعمالها أو مسكها أو تداولها بأي وسيلة من الوسائل (حتى الصحافة)، وهذا ما يمكن أن ينافي «حقوق النفاذ للمعلومة» والعمل الصحافي، الإخباري والاستقصائي. ويتعدى الأمر ذلك نحو تسليط عقوبة السجن لمدة عامين وخطية مالية قدرها عشرة آلاف دينار «لكل من تعمّد تحقير القوات المسلحة»، فيما لم يذكر القانون أي معنى للتحقير هنا، إذ ربما تناول مقال صحافي بالنقد بعض التصرفات الأمنية أو العسكرية، أو تمكن عمل صحافي من كشف تجاوزات أو إخلالات في القوات الحاملة للسلاح. لكن وفق الفصل 12 من مشروع القانون، فإن ذلك يمكن أن يعتبر تحقيراً. كذلك يفرض الفصل 7 من مشروع القانون إخضاع التصوير لترخيص مسبق ويفرض أيضاً مراقبة للمادة قبل النشر، حتى في حال وجود ترخيص للتصوير، وهذا تقنين واضح للرقابة.
وقد وقّعت 11 جمعية ومنظمة ناشطة في المجتمع المدني بياناً، يوم الخميس 14 تموز، عبّرت فيه عن رفضها القاطع لمشروع القانون المتعلق بزجر الاعتداءات على القوات المسلحة. وتقول المنظمات الـ11 التي من بينها «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» و«جميعة بوصلة»، إنّ هذا القانون إذا ما جرى تمريره «فسوف يُجهز على المكتسبات التي تحققت في الثورة، وسوف يؤسس لدكتاتورية بوليسية».
بات من الواضح إذاً أن عدداً من القوانين التي صُدِّق عليها في هذا العام البرلماني تُمثِّل عقبات أمام المرور إلى نظام ديموقراطي، أراده التونسيون في ثورة 2011 وما تلاها من نضالات قدمت شهداء آخرين لعلّ أبرزهم شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، وذلك في سبيل تكريس دولة تضمن الحرية والعدالة. وأصبح واضحاً ربما أنّ التحالفات السياسية المهيمنة على البرلمان والتي تصاحبها أزمة عميقة في الأداء السياسي والبرلماني وتشتت جهود المجتمع المدني، قد بدأت الآن في التأسيس لمرحلة التصالح مع الماضي وإعادة صياغته، ولا سيما أن قانون المصالحة مع رجال الأعمال والإداريين المتورطين في ملفات فساد في النظام السابق قد تم تمريره في لجنة التشريع العام، الأمر الذي لا يعكس من جهة أخرى أن الحملة على الفساد التي يقودها رئيس الحكومة يوسف الشاهد، هي حملة جادة.