القاهرة | لم يكمل طارق عامر بعد عامين في منصبه محافظاً للبنك المركزي المصري، لكنه مع ذلك أثّر في حياة كل مواطن مهما كان مستواه المادي. لا فرق في هذا المجال، بين الملياردير نجيب ساويرس، وبين أي موظف حكومي يتقاضي ألفَي جنيه كل شهر كراتب. فالكل الآن يعرف طارق عامر، بعدما كانت علاقة المصريين بمحافظ البنك المركزي لا تتعدى رؤية توقيعه على الأوراق النقدية.
علاقة سلفه هشام رامز والمجموعة الاقتصادية في مجلس الوزراء شهدت مناوشات عديدة. خلافاتٌ يقال إنها وصلت إلى التراشق اللفظي، أدت برامز إلى ترك منصبه والاستقالة قبل أن ينتهي عمله رسمياً. ثم جاء عامر محافظاً، وهو ابن شقيق المشير عبد الحكيم عامر، وظن البعض أنه آتٍ للحفاظ على الجنيه في بدايات التدهور المالي الذي تعيشه مصر جراء انخفاض احتياطها النقدي (31 مليار دولار)، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً. فعبر شهور عدة سبقت قرار تعويم الجنيه (3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016)، كانت سياسات عامر لا توحي بأن حياة المصريين ستصبح «سعيدة» في عهده، وهذا ما كان بالفعل.

قضى عامر على السوق السوداء،
لكنه قتل 50% من مدخرات أيّ مصري


القرار الأخير الذي أصدره، يقضي برفع أسعار الفائدة بنسبة 2%، في سياسة ينتهجها الرجل منذ أن جاء إلى المنصب. تؤدي هذه الزيادة بطبيعة الحال إلى رفع فوائد الدين الحكومي، أي أنه إذا كانت الحكومة قد قللت عجز موازنتها برفع الدعم خلال الأيام الماضية عن الوقود وتحريك أسعار الكهرباء، فإن رفع الفائدة في البنوك (ارتفعت بقدر 9.5 % منذ مجيء عامر إلى المنصب)، سيزيد بطبيعة الحال من فوائد الدين الحكومي الداخلي، وهو ما قد يعيد العجز إلى ما كان عليه. وكأن كل جزء من الحكومة المصرية يعمل في وادٍ بعيد عن الآخر. ويعتقد عامر أنه برفع أسعار الفائدة الأخيرة سيجعل المواطن يتخلى عن الدولار ويحوّل مدخراته إلى الجنيه المصري، وأنه بذلك يواجه التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته في الشهور الماضية (30%). وفي أبسط تعريف لها، إن قرارات الفائدة تدفع أي شخص إلى وضع أمواله في البنك بدلاً من استثمارها. ففي بنوك طارق عامر سيحصل على مكسب قدره 20% من دون أي مجهود... ومن سيفضل الاستثمار على مكسب بلا مجهود؟
ونظراً إلى كون الاحتياطي الأجنبي المصري كان قليلاً للغاية (16 مليار دولار وقت توليه المنصب)، وكانت المؤسسات الحكومية تواجه مشكلةً كبيرة في سد احتياجاتها من الدولار، أدى هذا الواقع إلى انتشار سوق سوداء للدولار الذي أصبح له سعران في السوق: البنكي 8.88 جنيهات، وسعرٌ في السوق الموازية وهو نحو عشرين جنيهاً. وتزامناً مع مشاورات مصر مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، اتُّخذ القرار الذي غيّر الحياة في مصر إلى الأبد، وهو قرار تعويم الجنيه أمام الدولار. هذا التعويم أدى إلى وصول سعر الجنيه في البنوك نفسها أحياناً إلى مستوى 19.45 جنيهاً.
قضى عامر بالفعل على السوق السوداء، لكنه قتل 50% من مدخرات أيّ مصري، فيما ارتفعت أسعار السلع ما بين 100 إلى 250% مع ضعف عام في الرقابة على الأسواق، وأصبحت السيدة التي تجلس على ناصية أي شارع في مصر وتبيع الجرجير ترفع سعره قائلةً للزبون: «إنت مش عارف الدولار بكام يا بيه؟».
يقول «رجال البنك المركزي» إن هذا جاذب للاستثمار الذي يأتي بالدولار إلى مصر، يرتفع احتياطها فترتفع قيمة عملتها أمام الدولار وينضبط السوق، وهو ما لم يحدث طبعاً ويبدو أنه لن يحدث قريباً بل حتى هو مجرد أحلام. باختصار، إن الحياة في مصر قبل قرار تعويم الجنيه غير الحياة بعده تماماً، إذ إن ما بعده هو ببساطة «جحيم أسعار» يعيشه المصريون.
يحب طارق عامر أن يحتفي بالاحتياطي النقدي الحالي، لكن الحقيقة أن زيادات الاحتياطي النقدي المصري تعتبر وهمية أيضاً، فمعظمها ناتج من القروض الخارجية التي حصلت عليها مصر؛ وأهمها الدفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي، وودائع من بعض الدول والتي كان صندوق النقد قد طلب من مصر الحصول عليها حتى تتم موافقته على القرض (!) والحكومة المصرية نفسها تخطط لاقتراض نحو تسعة مليارات دولار خلال العام المالي الحالي (2017 ـ 2018)، بحسب تصريحات سابقة لنائب وزير المالية أحمد كوجك؛ بالإضافة إلى بيع مصر سندات دولارية لأسواق الدين الدولية في بورصة لوكسمبورغ لسد الاحتياجات الدولارية من الخارج وخفض سعر الجنيه مقابل الدولار في الداخل. لكن حين يتحدث عامر إلى الإعلام محتفياً بالاحتياطي النقدي، ينتقي الأرقام الإيجابية، كأن يتحدث عن حجم التدفق الدولاري إلى البنوك منذ قرار التعويم، أو استقرار الاحتياطي النقدي فيقول إنها «أزمة أصبحت تاريخاً بلا عودة». لكنه يوماً ما قال إن «الدولار سيصبح بأربعة جنيهات»، وذلك في حديث اقتصادي لا يليق بطالب تخرج لتوّه من قسم المحاسبة في كلية التجارة!
وبعد أشهر من هذه الجملة التي أصبحت شهيرة، خرج في حوار تلفزيوني ليؤكد أنها كانت مجرد «نكتة»، حتى بات المصريون يتندّرون في جلساتهم وأحاديثهم حول الجنيه بنكتة عامر التي تبدو المحاولة الوحيدة للتخفيف من آثار قراراته في حياة كل مصري.