يطلق سائق سيّارة الأجرة تنهيدةً طويلةً، يرفع صوت آلة التسجيل قليلاً ويبدأ التّمايل مع صوت المطرب الحلبي صفوان العابد، بينما تتزايد حولنا أصوات زمامير السّيارات العالقة في ازدحامٍ شديد ويستمر تهاطل الثّلج بغزارة. نقول: «شكلنا ما رح نتحرّك بنص ساعة»، يضحك السائق «ويكون بساعة، مستعجلين ع شي؟ والله اشتقنا للزحمة يا خاي».
في مساء ذلك اليوم (الحادي والعشرين من كانون الأوّل) كان في الإمكان ملاحظة ازدحامٍ في معظم شوارع القسم الغربي من مدينة حلب، «اليوم بس عجقة؟» نسأل، ويجيب السائق «من أكتر من أسبوع بلشت الحركة تزيد، وهاليومين عالتّلج زادت أكتر وأكتر». يمكن سيّارات الأجرة أن تشرح لك كثيراً من واقع المدن، قبل شهرين كانت المبالغ التي يطلبها السّائقون كأجور توصيل تعادل ثلثي ما يطلبونه اليوم. «زادت الحركة (المقصود حركة الناس) طبعاً، وما زادت الشوارع» يقول لنا سائق آخر في اليوم التالي.

ازدحام هنا.. ولا مقومات هناك

لا أرقام واضحةً لعدد الحلبيين الذين وفدوا من القسم الشرقي للمدينة في خلال الأسابيع الأخيرة. كان معظم السكّان قد غادروا ذلك القسم بالتناسب مع تقدّم الجيش في أحيائه. يشرح محمّد آلية انتقاله من حيّ الهلّك إلى القسم الغربي «مع دخول الجيش قدرنا نتحرّك، كان في معارك حوالينا وأكيد ما رح نبقى تحت النّار. فيّشونا (مسح أمني للهويّات) وخيّرونا، اللي عندو محل يروح عليه بالغربيّة خلوه يروح واللي ما عندو نقلوه عجبرين (جزء من العائلات التي نُقلَت أوّل الأمر إلى مقارّ السّكن المؤقّت في جبرين عاد أيضاً إلى الأحياء الغربيّة بعد أيّام». اختار محمّد وعائلته (سبعة أشخاص) التوجه إلى بيت شقيقه في حيّ المارتيني، ليتشارك العائلتان بيتاً واحداً، شأن كثير من العائلات. لا يفكّر الشّاب في العودة إلى الهلّك حاليّاً «ما خرج ينعاش هونيك لسّة، ما في أمبيرات (كهرباء الاشتراك)، ما في محلات تبيع أكل، ونص بيوت الحارة مهدّمة». لا يجافي الشّاب الحقيقة، جولاتٌ طويلةٌ على معظم الأحياء الشرقيّة كفيلةٌ بتبيان حجم التحدّي الكبير الذي يُفترض بالجهات الحكوميّة أن تتجاوزه لتأهيل بعض الأحياء لتصبح صالحةً للسّكن (ثمّة شوارع يقوّض حجم الدمار فيها أيّ فرصة لاستصلاح شيءٍ منها، ويبدو الهدم الكامل وتشييد مبانٍ جديدة الحل الوحيد المتاح). وعلى الرغم من تزايد وعود المسؤولين في الفترة الأخيرة حول «النهوض بحلب» غيرَ أنّ الواقع يجعلُ تخيّل تحقق تلك الوعود ضرباً من المغامرة المحكومة بالفشل. ولا يتعلّق الأمر بإزالة الركام وإعادة فتح الشوارع فحسب (حتى هذه تبدو مهمّة شاقّة)، البنى التحتيّة في ما يقارب نصف مساحة حلب لا وجود لها. وتطبع الواقعيّة تفكير الشارع الحلبي بفعل ما خبره في خلال السنوات الماضية من الأداء الحكومي، وعلى سبيل المثال لم تُثمر حتى اليوم كل الوعود بإيجاد حلّ لمشكلة التيار الكهربائي، شأنها في ذلك شأن مياه الشرب (مع الأخذ في الاعتبار أنّ تلك الوعود كانت تشمل نصف المدينة فحسب).

نموذج للدوائر الحكوميّة


أمام مقر دائرة الأحوال المدنيّة (النّفوس) يبدو الازدحام مخيفاً. قبل الحرب كانت مقارّ الدائرة متوزّعة على مبانٍ كثيرة يُمثّل كلٌّ منها «شُعبةً» تختصّ بتنظيم الأحوال المدنيّة لعدد من الأحياء. كل تلك المقارّ كانت تتموضع بين منطقتي السبع بحرات وخان الحرير (اللتين تحوّلتا إلى خطّي تماس)، ما أدّى إلى خروجها من الخدمة.

ثمّة أسئلة كثيرة تفرض نفسها في ما يتعلّق بمستقبل الحياة في المدينة
جُمعَت شُعب النفوس في مقرّين، أكبرهما في محطّة القطارات (محطّة بغداد)، والأصغر في منطقة العبّارة، ويختصّ كلّ منهما بتقديم جزء من المعاملات. في مقر المحطّة تطغى الفوضى على كلّ شيء، لا لافتات ترشد المراجعين إلى اختصاص كلّ من النوافذ الكثيرة، لا إجابات لدى معظم الموظّفين عن الاستفسارات الكثيرة. تُعدّ «الأحوال المدنيّة» واحدةً من أوائل الدوائر الحكوميّة التي استقطبت مراجعين من السكّان الخارجين من الأحياء الشرقيّة سعياً إلى استكمال أوراقهم الثبوتيّة، فخلال سنوات طويلة فقد كثيرٌ من السكّان بطاقاتهم الشخصيّة، وتعرَضت بطاقات آخرين للتلف. دخل أطفال السنّ الذي يخوّلهم الحصول على بطاقة، إضافة إلى حاجة قسم من الوافدين الجدد إلى إخراجات قيود نفوس. ومن البديهي أن تتضاعف المراجعات قريباً، مع سعي الوافدين إلى تثبيت واقعات زواج وطلاق وولادات ووفيات (الأمر الذي ينطبق على كثير من الدوائر الحكوميّة). يقول مصدر في محافظة حلب لـ«الأخبار» إنّ «اجتماعات كثيرة عُقدت ووُضعت خططٌ لضمان قيام الدوائر الحكوميّة بواجبها على أكمل وجه، وستظهر نتائج تلك الخطط قريباً»، لكن لماذا لم توضع الخطط سلفاً؟ يكرر المصدر الحديث عن الخطط والظروف والمعوقات، ليبدو انتظار إجابة واضحة لهذا السؤال ضرباً من العبث، في ظل هيمنة أداء حكومي عام يُعَدّ التخبّط سمته الأبرز.

الغد المجهول


ثمّة أسئلة كثيرة تفرض نفسها في ما يتعلّق بمستقبل الحياة في «عاصمة الشمال». المدينة التي يعوّل كثير من السوريين على أن تشكّل عودتها إلى كنف الدولة رافعةً تعين الوضع الاقتصادي المتردّي في بلاد تبدو بحاجة لمن يعينُها بما يتجاوز الوعود والاحتفالات والخطابات إلى إطلاق ورش عمل حقيقيّة في مختلف القطاعات. لكن، على أرض الواقع تبدو ورش «التعفيش» هي الوحيدة النشيطة في هذه الأيّام وبإخلاص شديد. وشهد يوم أمس على سبيل المثال تكثيفاً لهذه «الورش» في بعض الأحياء استباقاً لـ«جولات ميدانيّة» يُزمع عدد من المسؤولين القيام بها بدءاً من اليوم.






حلبيّون متكيّفون


من المعهود عن الحلبيين قدرتهم على إيجاد حلول لكثير من المشكلات التي طبعت حياتهم على امتداد السنوات الماضية. ميزة «التكيّف» ستضعُك وجهاً لوجه أمام «مهنٍ» تولد باستمرار من رحم المستجدّات. أزمة الغاز التي تعيشها المدينة (شأن كل البلاد) دفعت بعض المراهقين إلى ابتكار مهنة «الانتظار». ومقابل ألف ليرة سوريّة سيمكنك إيجاد فتى ينتظر بدلاً منك في طابور الغاز ساعات طويلة (شرط أن يكون اسمك مسجّلاً في قوائم التوزيع). وسيكون الدفع رهين نجاح الفتى في الحصول على الأسطوانة، أما إذا انتهى التوزيع قبل وصول دوره، فـ«العوض على الله». على نحو مشابه وُلدت في خلال الأيام الأخيرة مهنة «نقل الأثاث بالعربات». وفي ظل حرص سكان الأحياء الشرقيّة على نقل أثاثهم «قبل تعفيشه» وصعوبة نقل الأثاث بواسطة السيارات، انتشر في تلك الأحياء عشرات الشبّان برفقة عربات متنوّعة (عربات مخصصة لبيع الخضار، عربات تُستخدم في أعمال البناء.. إلخ) لينقلوا الأثاث والأمتعة كيلومترات طويلة حتى الوصول إلى أقرب نقطة من «الغربيّة» ومقابل مبالغ يُتَّفَق عليها تبعاً لحجم «النقلة» وطول المسافة.